كان ليصير عيد ميلاد عادياً لولا أنها كانت 2011. كنتُ أعمل مع مجموعة من الفنانين المصريين على عرض مسرحي وثائقي «دروس في الثورة» داخل مبنى «معهد غوته» في وسط القاهرة، عندما قررنا الاحتفال على سطح المبنى المطل على ميدان التحرير بعيد ميلاد زميلنا البلجيكي روود جيلينس. قرر المعتصمون فجأة إطلاق الألعاب النارية من قلب الميدان، مما حوّل مناسبتنا الخاصة إلى ما يشبه العيد القومي. كنا لا نزال ممتلئين بتفاؤل المراحل الانتقالية، فيما كنت أخفي بين زملائي السعداء خيبة قررت معها التخلص من أيّ أمل حيال المشهد السياسي في السودان، بلدي الأصلي. فقد كان عيد ميلاد روود في التاسع من (تموز) يوليو، اليوم الذي أعلن فيه استقلال جمهورية جنوب السودان. لم أزر الجنوب في حياتي. وعندما تجمّدت حياتنا أمام التلفزيون في يوليو أيضاً عام 2005 بسبب سقوط طائرة الدكتور جون قرنق (نائب رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب في الفترة الانتقالية)، كنت لا أزال واحداً من المغتربين السودانيين الذين يمتلكون هوساً وحنيناً لسودان جديد. لكنّ شيئاً ما تغيّر داخلي حيال العلاقة مع فكرة الوطن التي كانت متمثّلة بشكل أكبر لدي في شكل الخارطة أكثر من كونها علاقة حواس وذاكرة. وخلال حياتي في القاهرة، تعمّقت علاقتي مع مختلف السودانيين في بلد كان يصل إليه لاجئون من شمال السودان وغربه وجنوبه، ولم يبخل عليّ بأن أشهد دماء السودانيين وهي تُهدر بعيداً عن المكان الذي هربوا من الموت فيه إلى موت آخر ذليل ومغترب. عندما قرّرت قوات الأمن المصرية مهاجمة اعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود ليلة رأس السنة التالية لوفاة قرنق، ولأنني كنت ابناً لناشط شيوعي هارب منذ أيام جعفري نميري، كانت هناك دائماً إجابة واحدة لكل الكوارث التي أحيقت بالسودانيين: عمر البشير.
«طاولة العشاء» للفنانة السودانية كمالا إسحق (زيت على لوح ــ 170×120 سنتم)

زرت السودان مرات عدة خلال فترة السلام التي شاع فيها أمل كاذب بالاستقرار والانتعاش الاقتصادي وبالطبع الوحدة، فيما اقتصرت سياسات الحركة الشعبية في عهد سلفاكير على استنساخ نموذج شريكها ـــ حزب المؤتمر الوطني ـــ باستثناء خطابه الديني. وبدلاً من أن ينال الجنوبيون أخيراً فرصتهم للتخلص من حكم البشير واضطهاد الشمال، حصلوا فقط على نسخة محلية جديدة من الحكم السابق.
كل هذا جعلني أتمسّك بالحلم المصري في لحظة 2011، متذرّعاً بالسنوات العشر التي كنت قد عشتها في القاهرة كطالب وفنان مبتدئ وكاتب، وما لقيته من احتواء عزز لدي انتماءً بديلاً لثقافة مألوفة تشربتها تماماً، لكن زيارة واحدة لخرطوم القرن الواحد والعشرين كانت كفيلة بأن تقتل المرء باليأس من أيّ مستقبل زاهر أو حتى اعتيادي. عندما يتذكر أحد الأصدقاء المصريين أنني لست مصرياً تماماً ويسألني بتعالي لحظات النشوة ذاك: لماذا لم تقوموا بثورة في السودان؟ وما يلاحق ذلك مباشرة من ترديد للنكات المستهلكة والصورة النمطية التي لطالما ألحقها العرب بالسودانيين: الكسل... كنت ببساطة أحبط، لأنّ أياً من المصريين الذين عرفتهم لم يكن واعياً بالتاريخ السياسي للامتداد الجغرافي لبلده. «الحديقة الخلفية» كما يسميها السياسيون المصريون بتعالي المستعمِر. لم يسمع أبناء جيلي من المصريين عن انتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بجنرال جاء ليعيش في ضيافة حسني مبارك. بعد انقلاب الجيش عليه مدعوماً بالجماهير الغاضبة، ولو كانوا عرفوا أن تلك الانتفاضة انتهت بفترة انتقالية عززت سيطرة اليمين الإسلامي - والإخوان المسلمين تحديداً - على السلطة، وأنهم هم تحديداً من تخلّص لاحقاً من الديمقراطية بالتحالف مع الجيش، وأن عمر البشير الذي يعرفون اسمه فقط ما هو إلا جنرال إسلامي جمع شبحي المعادلة المصرية في جسم واحد (ثورة الإنقاذ الوطني)، لربما - أقول ربما - كانوا قد أخذوا حذرهم وبعض العبر. بالطبع، لم تكن شوارع الخرطوم هادئة طوال هذه السنوات التي كانت أطراف السودان خلالها تحترق من دون اهتمام بأهوال الحرب والمجاعة. لكن كل الموجات التي عايشتها كان يتم قمعها بقسوة: من حملة إسقاط المؤتمر الوطني في انتخابات 2010 وما صاحبها من انسحاب لمرشح الحركة الشعبية ياسر عرمان في صفقة انفصال الجنوب، مروراً بانتفاضة سبتمبر 2013 الدموية، وحتى العصيان المدني في ديسمبر 2016. ورغم التغيّر البارز في خروج الأجيال الجديدة التي لم تعرف غير عمر البشير رئيساً، والحضور الطاغي للنساء في الموجات الثورية الجديدة، لكنّها كلّها ظلّت لا تبارح الشرارة والإرهاص. ورغم إيماني بما يشكله التراكم من كونه عاملاً أساسياً في التغيير السياسي، إلا أنني صرت منتمياً لجيل مهزوم - رغم شبابه - وأخذت في كل مرة أشهد فيها حراكاً موؤداً أغرق في المزيد من الهزيمة، متخلّصاً من تفاؤل الإرادة مع الاحتفاظ فقط بتشاؤم الرؤية. يعزّز ذلك سطوة خطاب أيديولوجي محافظ وسلطوي لأكثر من ثلاثة عقود، وما ينجم عن ذلك من استنساخ لخطابه ومنظومته القيمية في مختلف شرائح المجتمع لأجيال، ليتحول الرجل السوداني العادي إلى عمر بشير آخر.
حتى عندما قررتُ استغلال ملكَة الكتابة لتخيل مستقبل للسودان بعيداً عن الواقعي، ظلتْ تخيلاتي أكثر ميلاً للديستوبيا. في كتابي الأخير «أيام الخرطوم الأخيرة»، لم أستطع أن أتخيل ما سيؤول إليه سودان البشير ـــ حتى حول مباني القيادة العامة ـــ إلا عبر الميليشيات المسلحة لا الجماهير السلمية، وبنهاية مفتوحة للقصة تنبئ بمصير مجهول وقاتم، تذكرني الآن - ونحن في خضم اللحظة - بعبارة الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك وهو يستعير المشاهد ما بعد الأبوكاليبسية في أفلام هوليوود: «من السهل تخيّل نهاية العالم – نيزك يدمر كل أشكال الحياة ونحو ذلك – ولكننا لا نستطيع تخيل نهاية الرأسمالية». كذلك، ظل الوضع في مخيلتي: من السهل أن أتخيل نهاية السودان – الذي انهار بالفعل منذ سنوات – لكنني لا أستطيع أبداً تخيل نهاية نظام الإنقاذ.
عندما اندلعت المظاهرات في 19 كانون الأول (ديسمبر) 2018، كان خالي طارق الذي قضى كل حياته في السعودية، قد قرر التقاعد المبكر في الأربعين والعودة ملفوظاً بالظروف الاقتصادية الجديدة إلى السودان. وفي استمالة لحنيني الثوري القديم، أرسل لي في دبي رسالة بالوسم المنتشر #مدن_السودان_تنتفض كأنه يدعوني للقاء أخير. وعندما توفي بعد أسابيع، سافرتُ إلى الخرطوم متأخراً على وداعه. استغللتُ الزيارة وتجولتُ في الخرطوم. شممت رائحة الغاز المسيل للدموع من شوارع جانبية من دون أن أشارك في أي موكب أو مسيرة فيما كانت لا تزال الحياة المتدهورة تحتفظ ببعض المظاهر الاعتيادية. كنتُ أدرك أن أي انتفاضة لا تستطيع أن تشكل ضغطاً سياسياً في الشارع ما لم تتحول المظاهرات المتفرقة فيها إلى اعتصام كبير في موقع حيوي في قلب العاصمة. لكنني لم أمتلك أي شرعية للتفوه بأي اقتراح حيال انتفاضة ناشئة لا تقبل المقارنات بالربيع العربي الذي لم تنجح في الالتحاق به – لحسن الحظ – ولا التوجيهات الخارجية أو النصائح، خصوصاً إذا جاءت من مشاركين في ثورات مهزومة.
مع هذه الأجواء المحفوفة بهواجس الغدر، والعسكر، والثورة المضادة، فنحن لسنا متأكدين بعد حتى من مصير البشير ومكانه، ومؤسسات النظام لا تزال حية وقادرة على البطش وإفشال أي فرحة بانتصار حاسم.
طوال حياتي، لم أرَ تجمهراً لسودانيين عاديين يحتفلون بفرح، اللهم إلا استقبال جون قرنق في الساحة الخضراء في الخرطوم بعد توقيع اتفاقية السلام. الفرحة التي تحولت في أقل من شهر إلى أحداث عنف بعد مقتله. لم يعتد السودانيون على الفرح، لا في المناسبات القومية، ولا في مهرجانات الشوارع، ولم يكن لديهم أي فرق كروية قادرة على الفوز في البطولات الإقليمية أو الدولية. لهذا كان لا بد لي أن أشعر بالتردد والتوجّس وأنا أرقب الآلاف أمام القيادة العامة. ومع تزايد انهمار صور من قبيل احتضان عساكر الجيش، واعتلاء المتظاهرين للمدرعات، والأقباط الذين يحرسون المصلين المسلمين نهار الجمعة، وانفجار حسّ الفكاهة في اللافتات والتعليقات في وسائل التواصل، صرتُ عاجزاً تماماً عن استبعاد مشاهد ميدان التحرير من ذاكرتي، والجرح الذي لم يلتئم بعد، رغم إيماني بالاختلاف الموضوعي والجذري بين المشهد السياسي السوداني ونظيره في الشمال، ومع قراءتي المتواصلة لتعليقات الناشطين المصريين وهم يدلون بدلوهم بشأن الثورة السودانية الوليدة بخطاب إرشادي ووعظي منطلق من هزيمتهم ومتذرع بالحب، من دون معرفة مسبقة بتعقيدات الوضع واختلافه جنوباً. يزداد لديّ النفور والخوف من هذا الأمل الذي يعود إلى وعيي كعدوى سرعان ما تتكرر إصابتي بها من دون أن يكون جهازي المناعي قد أخذ كفايته من الإصابات والتحصينات، وأتذكر، وأنا أرى تذبذب هويتي بين خيبتي المصرية والأمل السوداني، المثل الشهير: «اللي يتحرق من الشوربة ينفخ في الزبادي».
* كاتب ومسرحي من السودان