عبلة الرويني *قبل سنوات عديدة، تحديداً قبل عشر سنوات، وجدتني في معركة مع أنسي الحاج، أقصد في معركة حوله، أقصد في معركة بسببه، تراشق، وغبار، وروائح دخان، وبكاء، وغضب محموم . لا لشيء إلا لأن أنسي الحاج رفض بعنف وتعالٍ أن أجري معه حواراً لجريدة «أخبار الأدب»، مفسداً مهمتي الصحافية لإعداد ملف خاص عنه للجريدة. وكان غضبي أشد، لم أفعل سوى البكاء المتواصل وسرد الواقعة، وكان ذلك كافياً لإغضاب اللبنانيين، إلى الحد الذي تساءل فيه الشاعر عباس بيضون: «وما الذي أتى بها إلى بيروت؟».

وسألني الشاعر عبد المنعم رمضان بهدوء لا يخفي لوماً: «هل كنت تريدين تقديم أنسي الحاج إلى الجمهور المصري»، كأن لسان حاله يعني بوضوح: «هل كنت تقومين بإعداد ملف عن أنسي الحاج، بدعوى منح الشاعر الكبير الفرصة للحضور في مصر؟». وكان أحد أسئلتي التي أثارت غضب أنسي الحاج، فألقى بالأوراق في الهواء، في انفعال غاضب. كان السؤال حول غياب تأثير قصيدته على شعراء قصيدة النثر المصرية، وأنهم (الشعراء المصريون) في الأغلب أحفاد محمد الماغوط، لا شاعر آخر. سؤال رمضان أنطوى على التعريض بي بالطبع، برغم أن الكتابة عن أنسي الحاج في القاهرة، كانت ولا تزال محاولة للاقتراب من عالم شعري غائب وبعيد عن المشهد الشعري المصري.
حقيقة لا تنفي مكانة، ولا تنقص تقديراً، حقيقة لا تجهل قيمة، ولا تتجاهل تاريخاً أو إنجازاً، تماماً كما أن محبة الشمس والانتماء للنهار، لا تعني عدم القدرة علي رؤية الليل، وإدراك سحر القمر …
أختصر اللقاء في معركة، وأختصر السؤال في غضب وتراشق، تماماً كما يختصر أنسي الحاج في أوصافه وألقاب ، فهو الشاعر «الملعون، الأنقى، العاصي، المتمرد، الوحشي، آخر القديسين». كما أن شعره أيضاً اختصر في مقدمة ديوانه الأول «لن»، بل إن مقدمة الديوان التي أعتبرت البيان الأول لقصيدة النثر، ظلت الأكثر شهرة وحضوراً من الديوان نفسه، وربما من كل أشعار أنسي الحاج، كما كتب الشاعر حسين بن حمزة، بل كما كتب أنسي الحاج نفسه «بعد ثلاثين سنة من كتابتي الشعر، لا يتحدث الباحثون في شعري، إلا عن مقدمة «لن»..».
الذين يعرفون أنسي الحاج، الذين قرأوه، النقاد الكسالى وربما غير الكسالى أيضاً يختصرونه وينمّطونه في صورة محددة واحدة ووحيدة. والقراءة حول أنسي أسهل عادة من قراءة أشعاره، والحكايات المثيرة والغريبة حوله، أكثر متعة عادة وأكثر رواجاً وقبولاً. هكذا، انتشرت شائعة مصادرة الأعمال الشعرية لأنسي الحاج في القاهرة، بتهمه العيب في الذات الالهية برغم قيام «الهيئة العامة لقصور الثقافة» بطبع 5 آلاف نسخة لأعماله الكاملة عام 2007، وبيع 4000 نسخة بالفعل إلى أن انتشرت شائعة التحفظ الشفاهي على النسخ الباقية في المخازن، بعدما احتج الشاعر محمود الأزهري على رفض طبع كتابه بحجة خروجه عن القيم والأخلاق، فصرخ الأزهري محتجاً: «ولماذا تكيلون بمكيالين، تمنعون كتابي، وتصدرون أعمال أنسي الحاج الكاملة، وهي الأكثر خروجاً وانتهاكاً!». الأهم أن النسخ الباقية من ديوان أنسي الحاج جرى توزيعها على 540 مكتبة تابعة لقصور الثقافة عبر محافظات مصر كلها، وهو ما يعني بالفعل «نقيض المنع» وتعميمها بصورة أكثر انتشاراً وحضوراً، لكنها الحكايات المثيرة، والرغبة في ملاحقة الصورة، وإضافة ألقاب وأوصاف واسهام في تأكيد النمط. لا يُعرف أنسي الحاج في القاهرة. لا تجري قراءته وتداول أشعاره، ليس ثمة حوار حول شعره، وما من مراجعات نقديه لتجربته. ليس ثمة تأثر حقيقي بقصيدته، قصيدة النثر المصرية هي بالفعل أقرب إلى قصيدة الماغوط، أو هي ذات ملامح وخصوصية تبعدها بالتأكيد عن قصيدة أنسي الحاج، وربما عن قصيدة النثر اللبنانية عموماً. يكتب الشاعر ابراهيم داود «لم يقرأ أنسي في مصر بسبب الخيال التقليدي الذي يدير الثقافة الرسمية»، لكن أنسي أيضاً لا تعرفه الثقافة الشعبية، أو هو لا يقرأ خارج الثقافة الرسمية.
هل هناك ما يغضب في القول بأنّ تجربة أنسي الحاج هي تجربة خاصة جداً وفردية جداً، وداخلية جداً، ومسيحية جداً، أسباب كافية لوضعه في سماء بعيدة، ومسافة هو أول من يدرك هوتها؟ كتب أنسي الحاج بعد قراءة «الكتاب»: «لأدونيس كتاب مهيب، لا أجرؤ بعد قراءته على أن أعتبر نفسي كاتباً عربياً، كتاب كهذا يفضح أميتي، كيف يكون كاتباً عربياً ويجهل ما تنضح به عروق أدونيس عن الإسلام؟ وما يكابده؟ وما أقتطع شطراً عظيماً من حياته في استنطاقه ومجادلته والتصارع وإياه؟ تكاد كل ملاحظة فيه أن تكون معجماً مصغراً عن الإسلام؟ وعن الجاهلية وكل العرب. والأخطر في أوضاعنا المتفجرة أن هذه التفاصيل باتت جزءاً من الحديث المتداول للأجيال اليوم، وبمعانيها التي علي رؤوسها القتال. من السهل القول إن هذا العالم لا يعنيني، أنني مسيحي ولن تكون أسماء السلطة والخلافة والدم أكثر من رموز بالنسبة إلي، ولكن من أنا اللامسلم في هذا الخضم الفاجع؟ إذا كان هذا الخضم لا يمثلني، فأنا طبعاً لا أمثله مهما حاولت مجاملته، ومهما حاول التسامح معي». هكذا، اختار أنسي الحاج أن يكون، أو هكذا كان دائماً، خارج تلك الأرض، وخارج تلك الثقافة، شاعراً لا يشبه إلا نفسه، يسكن سماءً بعيدة ووحيدة، ولا يريد أن يغادرها.
* كاتبة وناقدة مصرية