سبعون عاماً مرّت على رحيل أنطون سعادة، وواحد وسبعون عاماً مرّت على احتلال فلسطين. الأمر أبعد من رمز. بل قصّة بلاد تقاتل منذ مئة عام غزاتها، وقصّة أحد أبنائها الذي وزّع حياته بين الزعامة والكتابة والمنفى والسجن، ثم لحظة اغتياله في تموز 1949. ابن بلدة ضهور الشوير التي اشتهر أهلها بفنّ العمارة، بنى رؤية قومية حديثة تجمع بين فن السياسة والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع.فكره المنثور في كتبه ومقالاته ما زال يثقّفنا ويُلهم أجيالنا الجديدة في سورية الكبرى، ويمدنا برؤية جديدة لهويتنا وكياننا وتاريخنا. إنّ من يقرأ سعادة سيشعر بالفخر أنه سوري، وأنه ينتمي إلى أُمة مقاتلة وحيّة ومُبدعة.
«سورية للسوريين والسوريون أُمة تامة» أحد المداميك الأساسية في بنيان العقيدة القومية لسعادة.
الرجل درس العالم العربي سياسةً وتاريخاً واجتماعاً، فوجده أربع أُمم وليس أُمة واحدة. ووجد الأرض السورية هي الأساس الذي يجمع الأُمة السورية، وليس اللغة والدين اللذان تغيّرا على مدار التاريخ.
الأرض التي احتُلت واقتطعت وصودرت في فلسطين ولواء الإسكندرون والأهواز، وتمت فبركة هوية جديدة لها، أو الأرض التي اضمحلت من الذاكرة والوجدان مثل جزيرة قبرص. كتبَ سعادة عن النقد الذي تعرض له من القومية العربية كلّما طرح هذه الرؤية للعالم العربي. نقد وصفه بالهذيان.
مقالاته التي كتبها بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948، هي دروس في الجغرافيا السياسية العربية، ودليل على صحة رؤيته أن الأمة السورية ذات مصير مشترك في فلسطين والعراق ولبنان والأردن والشام والكويت وشبه جزيرة سيناء. هذه، اليوم، هي مناطق المواجهة والاشتباك مع الإمبريالية الأميركية ومع المشروع الصهيوني التخريبي في سورية الكبرى. إن «ورشة المنامة الاقتصادية» التي عُقدت في حزيران (يونيو) بمباركة أميركية وإسرائيلية، جمعت تحت رايتها كيانات الجزيرة العربية التي هي فضاء سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف عن دول وشعوب سورية الكبرى. إن من يعتبر أن هذه الكيانات تمثله تحت راية القومية العربية، هو حرّ، ولديه الحق أن يشعر بالخجل والعار من هرولتها إلى التطبيع مع إسرائيل.
ولكن أبناء فلسطين ولبنان والشام والأردن والعراق، لهم الحق أن يشعروا بالفخر لأنهم مستمرون في القتال، وبالثقة في تضحيات آبائهم وأجدادهم. ففي سورية الكبرى تعيش حركات المقاومة المسلحة، وفي سورية الكبرى أُنتج أبهى وأجود ما في الثقافة العربية الإسلامية من فلسفة وفكر وأدب، وما تم تجديده فكرياً في عصر النهضة أيضاً.
ورشة المنامة، التي هي النسخة الاقتصادية من «صفقة القرن»، رعتها أُمة أخرى غير الأُمة السورية، لتصفية قضية شعب فلسطين، الذي هو جزء أصيل من الأُمة السورية كما رآها سعادة.
هذه زاوية النظر الحيوية التي يقدّمها لنا فكر سعادة في الجغرافيا السياسية العربية. ذلّ العرب لا يعني ذلّ الأُمة السورية. هذه رؤية تزيل الغشاوة عن العيون، وتشحن النفس بالشجاعة والاقتحام والعزّة.
مقالات سعادة التي كتبها بعد احتلال فلسطين تسرد بعقلانية سياسية عميقة دور الملكية المصرية وآل سعود في لعب دور في كارثة فلسطين، كما لو أنه يكتب اليوم. يتطرّق إلى معاهدات الهدنة مع الكيان الصهيوني، ليس باعتبارها خيانة، بل كجزء من المصالح السياسية لهذه الأمم العربية التي تتعارض مع مصلحة الأُمة السورية في سورية الجنوبية. كان سعادة مدركاً للسياق التاريخي الذي أنتج هذه الأمم العربية، وكان يدرك الأطماع الاستعمارية في سورية الكبرى.
حين تقرأ مقالاته عن كارثة فلسطين، تشعر أنك تقرأ عن ورشة البحرين، هذه الجزيرة التي كانت يوماً جزءاً من «الساحل المهادن». وهذا مصطلح أطلقه السّاسة الإنكليز على الخليج العربي، في إشارة إلى الإمارات التي وقّع شيوخها معاهدة حماية و«هدنة» مع الحكومة البريطانية في القرن التاسع عشر. نعم، المصطلح استعلائي واستعماري، ولكنه يشير إلى نوع الثقافة السياسية التي تنتجها وتصدرها دول الخليج إلى العالم العربي، ثقافة المهادنة، خصوصاً أنها قوية مالياً وإعلامياً.
أجمل ما في فكر أنطون سعادة هو الصدق والشجاعة والحب، وقد صهرها في نص قومي حديث مؤسس على معرفة ورؤية جديدة


إن أجمل ما في فكر أنطون سعادة هو الصدق والشجاعة والحب، وقد صهرها في نصّ قومي حديث مؤسس على معرفة ورؤية جديدة. وقد بقي هذا الفكر حتى اللحظة أسير الشعارات الحزبية في المناسبات أو تم تشويهه في كتب أكاديمية. لم تتم دراسته والاشتغال عليه وفق أحدث تنظيرات دراسات ما بعد الاستعمار، والحرية والديمقراطية والمواطنة والدولة المدنية. إنّ نوعاً من هذا الاشتغال سيعيد إلى سعادة صوته الأصلي المُلهم ويعيد الاعتبار إلى فكره السياسي كمنهج ودستور عمل وليس فقط نصّاً أكاديمياً. أنطون سعادة هو زعيم سياسي أوّلاً وأخيراً. كان يرى الأمة السورية رأي العيان، ولم يتخيّلها ويخترعها من العدم. إن نظرية «الجماعات المتخيّلة» التي راجت بين الأكاديميين، تصلح لأُمم جنوب شرق آسيا، حيث شعرت القيادات القومية بحاجتها إلى «تخيّل» أُمة ذات تاريخ ولغة وأساطير، تجمع السكان الذين يعيشون فوق مئات من الجزر المتباعدة.
أما سعادة فقد وجد أرضاً يتشارك سكانها منذ مئات السنين وجداناً واحداً مبثوثاً في الحكايات الشعبية والأمثال والأهازيج والعادات. ما فعله هو أنه نحت مقولة فلسفية قومية وركّب لها جناحين لتطير.
كلّما فكّرت بأنطون سعادة، شاهدت وجهيّ أحمد فارس الشدياق وسليمان الحلبي. الحلبي، ذلك الشيخ الشاب الذي سافر من سوريا، واجتمع في مدينة القدس بأحد شيوخه للتخطيط لاغتيال قائد الحملة الفرنسية بعد رحيل نابليون عن مصر، كما يذكر في اعترافاته التي دوّنت بالفرنسية تحت التعذيب. يسافر الحلبي إلى القاهرة ليطعن بخنجر سوري الجنرال كليبر، ويقتله. والشدياق، المثقف الحر الذي اشتبك مع الغرب واخترق قشرته البرّاقة التي يكسو بها جلده، هو أيضاً بعضٌ من روح سعادة، الذي يشع فكره حيوية إلى يومنا هذا. ربما لأن فكرته ابنة الحياة وابنة الأرض. ربما لأنها ليست فكرة تأملية صوفية أو مستخرجة من بطون الكتب والنظريات، بل من شفاه الناس وقلوبهم ومشاعرهم وأحلامهم.