«المركز الكاثوليكي للإعلام». يحاول المرء أن يفهم شيئاً من هذا الاسم، ولكنها مهمة شبه مستعصية. لدينا وزارة إعلام، مجلس وطني للإعلام، مجلس أعلى كاثوليكي. تفهم إلى حدٍّ ما مهام كل واحد من هذه الهيئات، بعضها بيروقراطي مهترئ، وبعضها طائفي فعّال. تبحث قليلاً على الإنترنت عن تاريخ تأسيس «المركز الكاثوليكي للإعلام» فلا تجد معلومات كافية، كأنه موجود منذ الأزل. ليس هناك سوى تصريحات لمديره، الأب عبدو أبو كسم، يتصدى فيها لمؤامرات الملحدين، واليهود، والمثليين، وعبدة الشيطان، وكل الجهات التي «تتآمر» على الدين المسيحي والمسيحيين في لبنان. تذكر بعض المصادر أن «المركز» تأسس عام 1978 بطلب من المطران رولان أبو جودة بغرض التواصل مع مؤسسات الإعلام آنذاك. وهو لم يحظَ بالطبع بشهرته إلا بعد خروج الجيش السوري من لبنان حين استعادت الطوائف «عافيتها»، من جهة، وإثر انتشار مواقع التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، ما أتاح للناس سهولة الاطلاع والتواصل مع الهيئة التي باتت مرجعاً رقابياً، شبيهاً بإدارات المدارس. في السنة الماضية، سمعنا باسم «المركز الكاثوليكي للإعلام» ثلاث مرات: الأولى عند رفعه دعوى قبل عام ضد شربل خوري وكاتبة المقال، إثر كتابة منشور على فايسبوك والتعليق عليه، منشورٌ شكك بمعجزةٍ منسوبة إلى قدّيس لبناني. الثانية، عندما قاد حملةً على الأمين السابق للاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر بعد تسريب فيديو يظهر الأخير ساخراً من بطريرك راحل. الثالثة، عندما تذكر أحدهم فجأة أن لفرقة «مشروع ليلى» أغنية «تتضمن مسّاً بالدين المسيحي» (أغنية «الجنّ»).
لوحة ماكس إرنست La Vierge corrigeant l´enfant Jésus devant trois témoins (1926)

لكن قبل هذا العام، ارتبط اسم المركز وتحديداً مديره عبدو أبو كسم بالمنع والرقابة فقط. قبل أكثر من ثلاث سنوات، انشغل المركز ومديره بمسرحية عصام محفوظ «لماذا» التي أعادتها لينا خوري إلى الخشبة، اعتراضاً على مشهدٍ يحاكي القدّاس المسيحي. قبل ذلك بسنوات، برز اسم المركز في قضية الاعتراض على فيلم «تنورة ماكسي» لجو بو عيد، لتضمنه مشهداً جنسياً داخل كنيسة. وفي أيلول (سبتمبر) 2017، حذّر المركز من مهرجان لليوغا، متحدثاً في حينه عن «خطورة اقتباس أي تقنيّة تأمّل شرق آسيوي لدمجها مع التأمل المسيحي» ولا نعرف حتى الآن ما علاقة اليوغا بالإعلام كي يدلي أبو كسم بموقف منها. قبلها في شباط (فبراير) من العام نفسه، تعليقاً على قرار القاضي المنفرد في المتن الشمالي بعدم تجريم المثلية، أعلن أبو كسم أن المثلية «خطئية من الخطايا الكبرى لأنها لا تدخل ضمن مخطط الله بالخلاص والخلق والإنجاب والعائلة، والكتاب المقدس تحدث كثيراً عن اللواط وقال كلاماً قاسياً بحقهم»، وأيضاً لا نعرف ما علاقة قرار قضائي بالإعلام وبمهام المركز الذي يديره أبو كسم.
لكن ما همّ؟ فهل كلّ رجل دين في العالم العربي قرر أن يدلي بآرائه في الشأن العام، لديه مهام محددة أو ملتزم بوظيفته؟ ففي حفلة التشدّد التي بلغت ذروتها في السنوات الماضية، لا معنى للسؤال عن «توصيف وظيفي» لرجل الدين، هو متحدث باسم الحساسيات، ويبدو أنه حين يعلو صوت الحساسيات لا مجال لأي سؤال عقلاني آخر، فهو لن يسمع أصلاً. في هذا السياق، استحضر أبو كسم عام 2015 في حديثٍ إلى «الأخبار» (16/10/2015) (معلقاً على فيديو كليب للمغنية نايا، اعتُبر أنه يتضمن إهانة لإشارة الصليب)، حادثة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد في الدانمارك: «كسّروا بيروت يومها، ليش بدّو يكون حيطنا واطي؟». حجة أصبحت مفصلاً لدى المسيحيين غالباً ما تُستعاد في كل مرة يرون أن هناك مسّاً بدينهم. شيءٌ من قبيل تحاصص القمع والمظلومية.

الفنّ والمسّ بالمقدس
حفل تاريخ الفن بأمثلة تضمنت «مسّاً بالأديان» أو ما يسمّى بـ«التجديف» (Blasphemy). عرف الدين المسيحي على وجه الخصوص هذا النوع من الفنون، بسبب تفرّده بين الديانات السماوية بعلاقته بالصور والرموز. منذ منع قسطنطين الأول رسوم كاريكاتور معادية للمسيحية في الإمبراطورية الرومانية، حتى انتشار الرسوم المعادية للكهنوت والبابوية مع الإصلاح البروتستانتي. لكنّ لحظة التجرؤ على المسيح ومريم العذراء والثالوث الأقدس لم تأتِ إلا مع كومونة باريس (1871). منذ ذلك الحين وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، شهدت باريس ذروة الرسوم الكاريكاتورية المعادية للدين، وربما وصلت هذه الرسوم إلى جرأةٍ متقدمة عما نشهدها في عصرنا. سمعنا كثيراً في النصف الثاني من القرن الماضي كما في العقدين الأخيرين عن أعمالٍ فنية إشكالية، تحركت لأجلها المؤسسات الدينية حول العالم، وتعرض القائمون عليها لعقوبات قانونية أو لحملات تهديد وكراهية. لمحة سريعة على جزء يسير من الأعمال التي استفزت المؤسسات الدينية والمتدينين في السنوات الأخيرة، تظهر بعضاً من هذا الاشتباك: عمل Piss Christ للمصور الأميركي أندرس سيرانو (1987) الذي يصور المسيح المصلوب في وعاءٍ من بول المصور. عمل Virgin in a Condom لتانيا كوفاتس (1994) التي تصور تمثالاً للعذراء داخل واقٍ ذكري. لوحة الفنان السوريالي ماكس إرنست La Vierge corrigeant l´enfant Jésus devant trois témoins (1926) التي تبدو فيها مريم العذراء تضرب الطفل يسوع تحت نظر ثلاثة أشخاص هم الفنانون بول إيلوار، وأندريه بروتون وإرنست نفسه. رسم دالي Parfois je crache par plaisir sur le portrait de ma mère عام 1929. فيلما «حياة براين» لفريق مونتي بايثون الكوميدي البريطاني (1979) و«التجربة الأخيرة للمسيح» لسكورسيزي (1988). مسرحية الإيطالي روميو كاستيلوتشي «عن مفهوم وجه ابن الإله» عام 2011، تظهر رسماً لوجه المسيح على المسرح، وتنتهي ببكائه دموعاً من فضلات بشرية. المسرحية أثارت عاصفة غضب لدى المجموعات الكاثوليكية المتطرفة في فرنسا انتهت بأعمال عنف في باريس. مسرحية الأرجنتيني رودريغو غارسيا Golgota picnic، التي تضمّنت شخصية «المسيح المجنون»، مروراً بالطبع بكليب أغنية Like a prayer لمادونا، وJudas لليدي غاغا، إلى جانب تاريخ طويل من شيطنة موسيقى الروك والميتال من قِبَل الكنيسة.
اشتبك الفنّ مع المقدس مراراً، لعلّ ذلك عائد بالدرجة الأولى إلى كون الفنّ هو المجال الوحيد الذي يُنافس الدين أو الألوهة بصورةٍ أعمّ، على الخلق. اشتبك أحياناً بغرض التفاوض معه وأحياناً من دون أي هدف سوى الغرض الوظيفي نفسه. فلطالما استفاد الدين من الفنّ، لماذا لا
يحصل العكس؟
وإذا كان بين تعريفات الكُفر أو التجديف نجد أولاً «التعدي»، فإن الفنّ هو في طبيعته متعدٍّ. متعدٍّ على الخطوط الحمر، على المسلّمات، على صروح الأمان، على المنظومات المشيّدة للحماية واليقين، والدين يأتي في صدارتها.
الفن الذي عليه أن يكون قوةً مُستخرِجة للكليشيه، بحسب تعريف بول سيزان، اصطدم بالدين (هل هناك كليشيه أكبر منه؟) واستفاد من رمزيته، ووظّف معانيه، تارةً لإضفاء بعد آخر عليه، وتارةً للسخرية منه أو نقده وهجائه.
عند هذه النقطة، يجب الإشارة إلى أننا حين نتكلم عن الدين، نحن لا نتكلم عن رواية أو نصٍّ معزول في كتابٍ، وقد جاء شخصٌ «شرير» يعتدي عليه، لكننا نتحدث عن سلطة ومؤسسة متجذرة تاريخياً، لها سطوتها على حياة الجماعات والأفراد، خصوصاً في بلدٍ مثل لبنان، يتشرب فيه الفرد السلطة الدينية منذ أن يبصر النور، ثم ينشأ عليها ويتعرف إلى أكثر صورها ابتذالاً، الطوائف ومؤسساتها وزبائنيتها.
لحظة التجرؤ على المسيح ومريم العذراء والثالوث الأقدس لم تأتِ إلا مع كومونة باريس (1871)


لكن المشكلة الأساسية في تعاطي المؤسسة الدينية مع الفنون، هو تجاهلها أن النص الديني، بقصصه ورموزه، هو جزء من الإرث البشري، وهو ملكٌ لكل البشر بمعزل عن اعتقادهم بحقيقة ما ورائياته، أو بالاكتفاء به رمزاً ومصدراً للمعنى. وحين يوظف موسيقي، أو مخرج، أو فنان تشيكيلي، قصة القيامة أو الميلاد أو غيرها في عمل فني، فهو يقصد التوظيف الرمزي للرواية الدينية، مقصياً الجزء الغيبي الذي يعني المؤمن أكثر. فالرواية الدينية، مثل الروايات الأدبية والميثولوجيا، تصبح استعارةً في الفنون، وفي حالات كثيرة يكون توظيفها الفني تكريماً لها، لمكانتها في التاريخ وفي وجدان الجمهور. لا يمكن لأحد أن يمنع استخدام الدين باعتباره رمزاً في الخلق الفني، هذا كأن تلغي جزءاً من ذاكرة، أو أن تمحو تاريخاً وثقافةً.
هناك بعدٌ أساسي غالباً ما يسقط في مناسبات كهذه، وهو ما يمكن أن نسميه «شمولية التأويل». فالفنان ليس مسؤولاً عن تأويلك لعمله وعن المعنى الذي فهمته بمعزل عن «وضوح» هذا المعنى أو التباسه. فكيف إذا استخدمت تأويلك الخاص للتحريض على الفنان. في الحملة التي تبعت عمل Piss Christ، هناك راهبة علقت على العمل بالقول إن ما فهمته منه هو أن إظهار المصلوب في وعاء بولٍ، يعني «انظروا ماذا فعلنا بالمسيح». من يحدّد «الرسالة»؟ من يجزم بأحادية المعنى؟ إن تفسيرك وفهمك نابعان من ثقافتك وتجربتك وذكائك وتخصصك، ناهيك بالنبل والرحابة والسماحة وسعة الأفق، وقيم أخرى. لماذا تحمّل الفنان مسؤولية قيمك وصفاتك أنت؟

احمل قلقك واتبعني
الكفر/ التجديف هو ما يُنظر إليه بكونه تعدّياً على الله. تهمة حاكمت المحكمة الرومانية المسيح بها بحسب القانون اليهودي. الرجل الناصري الذي قام بمعجزات شفاء واستخراج أرواح وغيرها، كان مجدّفاً على الإله اليهودي واستحقّ لذلك عقوبة الموت بحسب القانون، أكثر من باراباس المجرم. وهو للمفارقة، ما سنجده في ما بعد عند القديس توما الأكويني الذي يقول في مؤلفه المركزي Summa Theologica: «إذا قارنا بين القتل والكفر، لناحية هدف كلتي الخطيئتين، من الواضح أن الكفر، وهي الخطيئة المرتكبة مباشرةً ضد الله، أكثر سوءاً من القتل، لأن الأخيرة خطيئة ضد الجار». لكن التجديف يختلف كثيراً بين وروده في خطاب وبين وروده في عمل فني. الأخير هو تمثل representation وهو لا يتبنّى مهاماً تحريضية أو تعبوية مثل الخطاب، هذا إذا اعتبرنا أن التجديف تهمة، مع العلم بوجود أصوات غربية طالبت وتطالب بالحق في التجديف، لما في ذلك من ضرورة عقلانية. ولكن، بالطبع، ليس هذا نقاشنا اليوم.
لماذا يُعدّ الكفر إذاً أشدّ سوءاً من القتل؟ ينتفض المؤمنون لاستخدام الدين في نكتة، في أغنية أو في «ميم» على فايسبوك، لما يشعرون أنه اعتداء على أكثر ما هو هشّ فيهم، على قلقهم وهواجسهم. لقد لاحظت الفلسفة الوجودية، لا سيما مع هايدغر، أن المنظومات الصارمة، أياً كانت هويتها، دينية أو أخلاقية أو عقائدية، لديها مهمة أساسية: الحماية من القلق. عرّف هذا التيار الفلسفي القلق بكونه خوفاً غير موجّه (unfocused fear)، وقد اشتهر تعريف كيركيغارد للقلق في هذا المجال بكونه «دوار الحرية»، أي الغثيان الذي يصيب المرء أمام الممكن، الاحتمالات اللامتناهية. بهذا المعنى، القلق هو تركة المطلق في داخلنا، والمطلق هنا تعني العالم المفتوح، المتفلّت الذي يفتقر إلى مدير وعناية واضحة، بخلاف ما يعتقده المؤمن. لذلك، إن المؤمن، الذي يَفترض أنه ثبّت قلقه، جمّده بإيمانه، يُخرجه في كل مرةٍ عن طوعه طيفُ حرية. شخص يسخر من رمزٍ ديني، أغنية تدرج آيةً أو قصة دينية في سياق خارج عن السائد، أمورٌ كفيلة باستفزاز المؤمن، واسترجاع قلقه الأوّلي. الحرية هي أكثر ما يربك الإنسان عموماً، لأنها تضعه مجدداً في مواجهة يقينه، كي يسائل مسلماته وقناعاته، الأرض التي يقف عليها والسقف الذي يحميه. الحرية، في أغنية، في لوحة، في فيلم، تعرّض حقائقه التي تكوّر في داخلها واطمأن، إلى الاهتزاز في كل مرة. ففي هجومه عليها، ومطالبته بمنعها، يسعى المؤمن إلى الانتصار على قلقه وإيجاد السكينة مجدداً. هذا عالمٌ معدّ بطريقة تناسب منظومتي الفكرية التي أصبحت سريراً وثيراً، من يأتي ويتجرأ على خلخلتها؟
في سياق متصل، عند اندلاع أعمال عنف في باريس رداً على مسرحية كاستيلوتشي، تبرأت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا مما يجري وأكدت أنها ليست متطرفة ولا ظلامية. تصريح كهذا يوضح حرج المؤسسة الدينية أمام تاريخ من التنوير، حرجٌ نفتقد مثيلاً له من قبل المؤسسة الدينية الرسمية في بلادنا (ونجده عند قلة استثنائية من رجال الدين). هذا ينقلنا إلى مستوى آخر من القلق وهو القلق الهوياتي. وهنا نستعيد تصريح أبو كسم عن اعتراض المسلمين عام 2006 على الرسومات المسيئة للرسول في بيروت. ليس سهلاً أن تكون في موقع مسؤولية عن طائفة في بلدٍ مثل لبنان. فأنت مؤتمن على «حقوق وكرامة» الطائفة فقط، ما يعني ضمناً مساواتها المستمرة بالطوائف الأخرى، مع ما يعنيه ذلك من قلق متواصل. هنا مهمتك مضاعفة لأنها مهمة هوياتية، والهوية تحدد بشكل أساسي بالمعاداة للآخر، بانتخاب عدو، وإن تعذر ذلك باختراعه. بهذا فقط تؤكد وجود الجماعة وحيويتها وتشدّ عصبها. أن تستمر مهام هذا المركز بهذا الشكل، مع هيمنة العشوائية والخطاب التجهيلي والجماعة المتفلتة من أي هدوء وعقلانية، هو أمرٌ مؤسف وتهديد لأي شخصٍ في المستقبل، فنان أو مجرد شخص له حساب على فايسبوك مثلاً، ينتج أو يكتب أو يقول شيئاً لا يعجب جماعة المؤمنين فتفوّض أبو كسم ليقتصّ منه. على أحدٍ ما، على صوت عقلاني ما، أن يقف في وجه مهرجان اللاعقلانية هذا.
أما بالنسبة لحساسية المؤمن، فربما الحلّ، كما هو دوماً، في التصالح مع القلق. لن ينتهي القلق لأن طبيعة العالم لن تتغير. لن تختفي الحرية من الوجود مع كل تبعاتها وأثقالها، لن تقلّ العَرَضية والعبثية. نعم سيظهر دائماً أشخاص يستخدمون رواياتك الدينية خارج سياقها، ستصادف أشخاصاً مثليين وربما أكثر من قبل، وسترى فوتو-مونتاج لمادونا وغيرها مكان صورة مريم العذراء. وقد تستمع إلى أغانٍ لا تعجبك. هذا عالمٌ مفتوح ومتقدّم بسرعة وبشكلٍ دائم. عزيزي أبو كسم، عزيزي المؤمن، خبرٌ سيّئ، لن يوقف أحدٌ هذا السيل.

* تحت عنوان «محاكم التفتيش»، تقام اليوم وقفة احتجاجية (17:30) في حديقة «سمير قصير» (وسط بيروت) رفضاً لـ «سطوة السلطات الدينية والملاحقات القانونية والمساس بحرية الرأي»