1 – حلب في التاريخ قليل من التاريخ، موجز لتتابع الحقباتيُجمِعُ الباحثون في تاريخ المدن، أن حلب هي من أقدمِ مدنِ التاريخ. وهي مدينة عامرة منذ 5000 سنة. حكمها السلوقيون لمدة تُقارب ثلاثة قرون. ثم انتصرت روما وحكمتها، لمدة تعدَّت الثلاثة قرون أيضاً. سقطت روما بعدها وقامت بيزنطية، المشرقية. سقطت بيزنطية بدورها، أمام الفتح العربي الإسلامي، وأصبحت حلبُ، مدينةً عربيةً إسلاميةً. عَظُم دورُها في عهد الخلافة الأُموية. وعرفت بعدها كلَّ تحولاتِ الحقبة الإسلامية، من العباسيين والفاطميين، إلى الأتابك الزنكيين، إلى الأيوبيين، إلى المماليك، إلى السلاجِقة. إلى أن فتحها السلطان سليم الأول عام 1516 م. وبقيت عثمانية حتى سقوط الدولة العثمانية. فوُضِعتْ حلب مع كامل الأراضي السورية، تحت الانتداب الفرنسي.
استقلت سوريا في عام 1946، وأصبحت حلب، قطباً كبيراً في الدولة السورية المستقلة. وكان لها دورٌ اقتصاديٌّ محوريٌّ استراتيجيٌّ، منذ تجارة القوافل الأولى، حتى القرون الوسطى وما بعدها. فهي تقعُ على تقاطعٍ تجاري هام وتسيِّر القوافلَ إلى الهند، وديار بكر، وأرمينيا...، أي أنها كانت عقدة تواصل على طريق الحرير. وكان لحلب دورٌ رئيس منذ الفتح العربي، وطوال الخلافة الأموية، أُكرِّر. وبرزت كمدينةٍ عربيةٍ إسلامية، ذات أهمية معمارية وعلمية. فيها الجامع الأموي الكبير، أحد معالمها الرئيسة. وحافظت حلب على أهميتها، رُغم انتقال مركز الخلافة، من دمشق إلى بغداد.

(مروان طحطح)


2– المكان الطبيعي لمدينة حلب، وإملاءاته.

2– 1 – المكان الطبيعي لمدينة حلب.
تُظهر الدراسات الجغرافية والطوبوغرافية، أن القلعة التي توَّجت التلة التاريخية، تتوسط مدينة حلب. وهي قلبُ المدينةِ ومركزها. أرضُ حلب التي تحوط القلعةَ من كلِّ جوانبها، هي منبسطة، على منسوبٍ يُقارب الـ 400 متر. إن هذه المميِّزات الطوبوغرافية، هي المحدَّد الأوَّل لمكان المدينة التاريخية، الذي تراكمت فيه عِمارة كلِّ الحقبات. إنها الميزة الأولى. والميزة الثانية، التي تحدِّد مكان المدينة، هي وجود نهر القويق، مصدراً للمياه، للاستعمال وللريّ.
والميزة الثالثة، هي أن هذا المنبسط، بحدوده، القلعةُ شرقاً والنهرُ غرباً، يحدِّد مكان المدينة الطبيعي. فالدراسات الطوبوغرافية ذاتها، تشير إلى تضاريسَ ترتفعُ في الجنوب الشرقي، وفي الشمال الشرقي أيضاً، ويزداد ارتفاعها لتصلَ إلى أقصى المناسيب ارتفاعاً 525 متراً. إلا أن المدينة امتدّت في كل الاتجاهات. ومكان المدينة التاريخي، هو في الامتداد الأفقي من القلعة شرقاً، إلى النهر غرباً.

2– 2 – إملاءات المكان الطبيعي لمدينة حلب
تختصرُ الفقرة السابقة، كلَّ إملاءات المكان الطبيعي للمدينة. والإملاءة الأولى تؤكد ما حَملَتْه الحقبات التاريخية، من تراكُمِ البنيان المدينيِّ في المكان نفسه. والإملاءة الثانية، هي في التشديد على عدم تمدد المدينة في الاتجاه الجنوبي الشرقي، حيث تكثر التضاريس، وتختلف الارتفاعات. والإملاءة الثالثة، هي أن المُعطَى الطوبوغرافي، يحدِّد مكان التمدُّد الرئيس. في الغرب، أو في الشمال الغربي.

3- الإنشاءات الأولى مع السلوقيِّين، والمخطّط الشطرنجي والتحولات العمرانية الرئيسة حتى الانتداب الفرنسي
عمل السلوقيون بإملاءَات المكان الطبيعي للمدينة، في اختيارهم المنطقة المنبسطة غرب القلعة، لبناء منشآتهم المعمارية الأولى: الأسواق، والمعبد والأغورا... وبعضُ السكن. ابتدأ بنيانهم من مرتفعات تل العقبة شمالاً، أي من موقع المدينة الأولى، إلى حدود التلة السوداء جنوباً. وتوسَّط النسيج المبنيَّ طريق مستقيم، ابتدأ من القلعة باتجاه الغرب مروراً بالأغورا. وسُمِّي هذا الطريق، شارع الأعمدة. ثم تمدَّد نسيجهم المبني باتجاه النهر. قام بنيانهم كما في أماكن أخرى، (دمشق وبيروت مثلاً)، على مخطَّط متعامد تتجه الطرق فيه من الشمال إلى الجنوب. وسمِّي هذا المخطَّط في سوريا مخطَّطاً شطرنجياً. و«الأغورا» هي مجال واسع في قلب النسيج، للاحتفالات الكبرى.

(مروان طحطح)

والأسواق على جانبي الطرق، والمعبد في الطرف الغربي. تتابع في مكان المدينة الطبيعي، الرومان، والبيزنطيون، إلى أن انتصر الإسلام. لم تُغيِّر الحقبةُ الرومانيةُ في المخطَّط الشطرنجي، ولم تُدخِل الحقبةُ البيزنطيةُ الكثير من التعديلات. وبقيت المدينة داخل أسوارها، حتى القرن السادس م. التغيير الحقيقيُّ في الوظائف، حصل مع انتشار الإسلام، وبناء الأسواق التقليدية وكل ملحقاتها، من خانات، وحمَّامات، ومساجد. أهمُّها الجامع الأموي الكبير الذي بُنِيَ مكان «الأغورا»، والمدرسة الدينية التي بنيت مكان المعبد. والتغيير الأهم، هو تحويل «شارع الأعمدة» إلى امتدادٍ رئيس للأسواق. وربما تخطَّى طول الأسواق بمجموعها 36 كلم، منها 16 كلم مسقوفة.
لم يغير العثمانيون في تخطيط المدينة التاريخية. إلا أن المدينة، في بداية القرن السادس عشر، كانت قد خرجت من أسوارها، وتمدَّدت في كل الاتجاهات، بحيث أصبحت القلعة مركزها الوحيد. وتبلغ مساحة المدينة التاريخية المسجلة في لائحة التراث المبني العالمي، 450 هكتاراً. وهي تحوط القلعة من كلّ الجهات.

4- الانتداب الفرنسي، والتنظيم المديني الحديث، وما سُمِّيَ العمارة الحديثة.
ابتدأ التنظيم المديني الحديث، أكرر، مع إيدالفونسو سردا في برشلونة، وأول مثالٍ من وحي التنظيم المديني وفق رؤية سردا بالإضافة إلى برشلونة، كان أعمال هوسمن في باريس. (نكرر للضرورة، ما ذكرناه حول التنظيم المديني في دمشق). وباريس اليوم، هي من إنتاج هوسمن.

5- التنظيم المديني الحديث، يدمِّر أجزاء من المعالم التاريخية، ومن التراث في حلب. والشوارع العريضة المستقيمة، على جانبيها المباني المرتفعة طبقات، تسلب جزءاً من روحها.
وضع شارل شارتييه، مخطَّطين لمدينة حلب في عام 1894. وفي الحقبة ذاتِها وضع لها مخطَّطاً جديداً وفق ما عُرف بالتنظيم المديني الحديث، حدَّد فيه تمدُّد المدينة باتجاه الغرب، واعتمد الشوارع العريضة، والمباني المتعددة الطوابق المطلة على هذه الشوارع. وكما في بيروت أتى الأخوان دانجه في منتصف الثلاثينات، وأكملا عمل شارتييه في تدمير النسيج التقليدي. وكما في بيروت أيضاً، أتى إيكوشار، ليكمل الهدم. وبعد الاستقلال، كما في لبنان أيضاً، استمرت سبحة المخطَّطات الغربيَّة. وكان مخطَّط غوتون ليحدّد نمو المدينة بين عامي 1954 – 1975. كلهم فرنسيون إذاً، باستثناء الياباني بانشويا. وانتهت سبحة المخطِّطين مع المخطَّط التنظيمي العام لمدينة حلب (2000– 2015) الذي وضعه المعمار الأستاذ، د. ياسر ضاشوالي.
تدمير المدينة ليس مجرد عملٍ حربيٍّ عادي. إنَّه محاولة اغتيال واضحةٍ لتماسك الجماعة، ولتزوير هُوية الأمكنة


وقد أضافت «الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية» إلى المخطط، 20000 هكتار (200 كلم2) لتغطية حاجات التوسُّع. واللافت في هذه الزيادة، تخصيص 4000 هكتار (40 كلم2) للمدينة الصناعية «شيخ نجار». إذ بدت لنا هذه المساحة كبيرة جداً عند زيارتنا الميدانية لها. كما بدت مؤسساتها الصناعية مبعثرة. ملاحظتان تبدوان ضروريتان:
الأولى: تقليص مساحة المدينة الصناعية، وتوزيع المساحة المقتطعة، على المناطق الخضراء وعلى مناطق الحماية.
الثانية: إعادة النظر في البنية الإنتاجية للصناعة في حلب، في ضوء المستجدات التكنولوجية في العالم، لجهة الاقتصاد الإلكتروني والتقنيات الرقمية. وتخصيص جزء هامﱟ من بنية الصناعة فيها لاستيعاب هذه التطورات والاستفادة منها. وربما يتم ذلك بشراكة مع الصين.

6- الحصار والدمار: حلب (2012- 2016)، الحصار، والحرب، والدمار الجزئي.
في خلاصة مكثَّفة، وكمدخلٍ للمكوّن الرئيس في هذا النص، أقول: حلب مدينة عريقة موغلة في التاريخ. موقعها استراتيجي، استقرت فيها كل الحضارات القديمة الكبرى، وتركت فيها آثارها، ومعالمها، ومعرفتها. وهي راهناً، عربية إسلامية منذ فجر الإسلام، مروراً بكل الحقبات الإسلامية المعروفة، في الخلافة وبعدها. فيها الجامع الأموي الكبير، وفيها معْلمُها الأول قلعتها، حاملة الجزء الرئيس من الذاكرة الجماعية لناسِها، أي من هوية المكان وهُوية ناسه. وفيها أسواقها التقليدية، حاملة الجزء الثاني الأهم من الذاكرة الجماعية والهوية. حلب مدينةٌ اشتهرت باقتصادها، وهي اليوم العاصمة الثانية لسوريا، وقلبها الاقتصادي، ورئتها الصناعية المتجدِّدة.

(مروان طحطح)

في حلب إذاً، كل عناصر الجذب للتكفيريين الإلغائيين، الساعين إلى تدمير أماكن الذاكرة الجماعية، وعاء الانتماء والهوية. الساعين إذاً، إلى تدمير أصالة الناس، وتفتيت المجتمع، ومحو الشخصية الوطنية والهوية الأصيلة، ليكتبوا لهم إثر ذلك تاريخاً آخر مزيَّفاً، ويلبسونهم هوية أخرى مفتعلة مفتِّتة. حاصر التكفيريون الإلغائيون لمدة سنتين كاملتين، مدينة حلب. فاختنق أهلها ومرضوا، وجاعوا. وبعد الحصار، نشبت حرب عنيفة، كان من نتائجها أن تحرَّرت المدينة (2014 – 2016). حرب طويلة قاسية، دُمِّر فيها قلب المدينة التاريخي، وانتشر الدمار ليطال معظم أحيائها. وحصيلة الحرب مدينياً، دمار شديد في 20% تقريباً من النسيج المبني، في حين نجا الخمس الثاني من التدمير. أما الباقي أي 58% تقريباً، فهو صالح للترميم، بدرجات متفاوتة. وفق الاحتسابات الميدانية، للشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية.

7- إعادة الإعمار في حلب
الذاكرة، التاريخ، التراث، والهوية.نعمّر حلب؟ أم نعمِّر ما دمرته الحرب فيها؟
الإعمار، الذاكرة، التاريخ، التراث والهوية.
قلب حلب اليوم مدَّمر. النواة الصلبةُ في نسيج المدينة، حيث تركت كلُّ الحقباتِ بصماتِها مرئية. إن هذا القلب هو مدمَّر الآن. معظم الأسقف التصقت بالأرض. معظم الجدران أصبحت حجارةً، جُمعت أمام الأبواب المحطَّمة. تدخل من باب أنطاكيا، في سوقٍ سيوصِلُك بعد مسار قصير إلى الركام. تحاول أن تتسلَّل من بابٍ جانبيّ فيردعُك الركام. أما الأسواق التي تحوط الجامع الأموي الكبير، أو النسيج شرق القلعة وشمالها، فكلُّها مدمَّرةٌ الآن.
عرفتُ هذه الأمكنة، ولا أستطيعُ أن أتصوَّر حلب بدونها. إنها روحُ المدينة، بالنسيج الاجتماعي الذي يتذكَّرُ تواصُلَ التاريخ فيها. وتدميرها، ليس مجرد عملٍ حربيٍّ عادي. إنَّه محاولة اغتيال واضحةٍ لتماسك الجماعة، ولتزوير هُوية الأمكنة، ولانتزاعٍ عنيفٍ لهوية ناسِ هذه الامكنة. الهدف المختبئ يتعدَّى البعد العسكري، إلى بُعدِ قتلِ روحِ الصمودِ عند الناس، وتفكيك المجتمع وجعله جاهزاً للاستسلام وللخضوع. الحرب في هذه الأمكنة، هدمت كل شيء. وإعادة الإعمار كليَّة. نعيد إعمار قلب المدينة لنحتضنَ روحها وهُويتها، ولنحصِّن الذاكرة الجماعية لدى أهلها. المخطَّطات متوفِّرة، والتوثيق كاملٌ. واقتراح «الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية»، بإعادة قلب المدينة إلى ما كان عليه، هو اقتراحٌ صائبٌ.
نتساءل، بحرصٍ شديدٍ، كيف سيتم ذلك؟
هناك إجابات جزئية الآن. مؤسسة الآغا خان ترمِّم بعض الأجزاء، وآخرون يرمِّمون أجزاء أخرى من الأسواق غير المسقوفة، وترميم الجامع الأموي يتقدم بسرعة مقبولة، وبإشرافٍ ميدانيٍّ لمختصّين مجرَّبين، ذوي ثقافة معمارية عالية.
ولكن،
ولكن، هناك على سبيل المثال 36 كلم من الأسواق، نصفُها على الأقل مسقوف. والأسقف بارتفاعات شاهقة، وتعود كلُّها إلى الحقبات الإسلامية المتعاقبة، الفاطمية، والزنكية، والأيوبية، والمملوكية، ... والعثمانية. الأسقف هذه، هي عقودٌ سريرية تتتابع غالباً، وتتقاطع أحياناً، راسمة حلقات دائرية تحمل قبباً. في هذا المثال إشكالية واضحة. إذ أنّ المسألة هي في كيفية إعادة الإعمار هذه.

(مروان طحطح)

باستعمال مهارة الحرفيين؟ وصفِّ الاحجار؟ ونزع القوالب عند اكتمال العقود؟!... أم أن مرونةً ما، ستسمحُ باستعمال مواد أخرى، كالخرسانة المسلحة مثلاً، تعيد بناء المجالات التاريخية، تكسوها ورقة إسمنتية بقماشة خاصة، يتم طلاؤها بملمَسٍ ولونٍ ملائمين، بما يُنتجُ روحَ المكان؟ هل تفكّر الهيئات المعنية؟ بالاستعانة بهذه المرونة؟ كما يقول فيوليه لودوك، مبتعدين عن نظريات راسكن وموريس. وللأمانة المهنية والتاريخية، أقول إنّ كل ما احترق بالأمـس في كاتدرائيــة «السيـدة» في باريس، هو من إنتاج فكر ﭭﻴﻭله لودوك، ومن إنجازاته.

8- الدمار الموضعي منتشر في سائر أرجاء المدينة. نعمَّر حلب؟ أم نعمِّر ما دمَّرته الحرب فيها؟
نكرّر ما تقوله «الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية»، إن المدمَّر كلياً هو بحدود العشرين في المئة. وربما قلنا بعد زياراتنا الميدانية، إن تصنيف الدمار درجات، عليه أن يؤدِّي إلى تحجيم رقعة الهدم. الدمارُ، هو رغم انتشاره، موضعيٌّ. وغالباً ما يكون مختبئاً في تجاويف الأحياء. التدميرُ موضعيُّ. والمعالجة عليها أن تكون موضعية. وعلى المعنيين، أن يُعدُّوا مخططاً جديداً للمدينة، يحدّد تطوُّرها في العشرين سنة المقبلة 2020 – 2040 من مكوناته: عدم توسيع رقعة الدمار، ترميم كل ما يمكن ترميمه، وإعادة بناء كل ما تهدم كلياً. لنعود إلى طرحنا الرئيس، لا نعمِّر حلب، بل نعمِّر ما دمَّرته الحرب فيها.
إنه تنظيم مديني موضعي، أعمال إعادة الأعمار فيه، هي مثل الخياطة، مثل سد ثقبٍ في ثوب، أو أحسن من ذلك، مثل الرتي. ورَتْيُ الثقبِ في الثوب، يتم بخيوطٍ مأخوذةٍ من الثوبِ ذاته.
إنه إعمار موضعيٌّ، يُعيد بناء المهدَّم المختبئ في الأحياءِ، أو الظاهرِ في واجهاتها. لن تُبنى كما كانت، بل بما ينسجم مع النسيج القائم، ولا يشكِّل جسماً غريباً، مغلَّفاً بقناعِ الجديدِ الراهنِ، والمنتشر في عالم اليوم المعولم (Globalisé). مجموعة المعالجات هذه، تُعيد جسم المدينة إلى حالته السابقة، كما يعالجُ الطبيبُ إصابات الشظايا، في أماكن متعددة من الجسد. يدلُّ اللجوءُ إلى تدخّلٍ موضعيٍّ، على أن الجهد الرئيس في إعادة إعمار ما دمرته الحرب في المدن، يجب أن يبدأ بعدم توسيع رقعة الهدم فيها. أكرر ذلك مراراً، لأن في مقولة عدم توسيع رقعة الهدم، التوجُّهُ الوحيد الصحّي، في إعادة إعمار أجزاء مهدَّمة من المدن التاريخية. أي بالسعي لجعل ما قدَّرته الشركة بـ 58% ترميماً، 63% أو أكثر، إذا استطعنا، عبر الحدِّ من أعمال الهدم، لأن اللجوء إلى الترميم هو القاعدة، والمعيارُ الرئيسُ في ذلك هو تأمين السلامة العامة.

9- مسألة المخالفات المسماة «المباني العشوائية»
لا وجود في حلب لـ «عشوائياتٍ» بالمعنى الصحيح للكلمة، أي مدن الصفيح التي نعرفها في معظم مدننا، كالقاهرة، وبيروت... مثلاً. العشوائيات في حلب، هي ما تسميه «الشركة العامة للدراسات والاستشارت الفنية» البنيان غير المنظَّم، أي البنيان في أراضي الغير، أو في الأملاك العامة، (الدولة، البلديات)، أو البناء بدون رخصة. التدمير في جبل بدرو مثالاً، لا يتعدى 13%، أي أنّ الـ 87% المتبقية، هي غير مهدَّمة. وتقول «الشركة» بوضوح، إنه بوجود التدمير، وبوجود فراغات غير مبنية من جهة أخرى، كل ذلك يسمح بإعادة الإعمار الكلِّي. وقد أعدت لذلك دراسة كاملة، تبني مجمَّعاً مدينياً جديداً، يقوم على هدم كل ما هو موجود (87%)، واستبداله وفق مخطَّط تنظيمي كاملٍ، بمبانٍ جديدة، وبلغة معمارية جديدة. نعود في هذا المثال، إلى مبدأ عدم توسيع رقعة الهدم. الحربُ ليست فرصة لتحديث الأمكنة، وليست فرصة لتأديب المخالفين، أو فرصة لإشباع نهم المضاربين الجشعين. وهي خاصة، ليست فرصة لزرع جسم مبنى غريب وسط نسيج، هو جزء من الذاكرة الجماعية للناس. التوجه خاطئ مهنياً، واجتماعياً، واقتصادياً. علينا أن نعيد بناء ما تهدَّم في الحي، بروح ما هو موجود، ولا أقول بعمارة مشابهة. مع إيجاد سبلٍ للتسوية مع المخالفين، وهم غالباً ما يكونون من إفرازات السياسات العامة للدولة.
الحربُ ليست فرصة لتحديث الأمكنة، ولا فرصة لزرع جسم مبنى غريب وسط نسيج، هو جزء من الذاكرة الجماعية للناس


الحيدرية، في مثال آخر عن المخالفات. التجمُّع السكاني هناك، يقوم على الأملاك العامة، والموقف المعلن هو هدمه، وإعادة إسكان ناسه في عمارات برجية عامودية، لاسترجاع الأرض. سنشهد «دوحة، أخرى» عند الأطراف الشمالية الشرقية لحلب. وربما في أطرافٍ أخرى أيضاً!
بئس الحل... ولكن! يقول بعضهم، إن إقامة تنظيم مديني مؤلف من مجموعة متناسقة من الأبراج، بمعزل عن الوظائف التي تشغلها، إن إقامة مثل هذا التأليف، عند الأطراف البعيدة في المدينة، قد يرمز إلى حدودها. وما الاختلاف في شكل النسيج المديني، سوى الدلالة الرمزية على الحدود. إنه قول مقبول.
ولنا في مجمع «الديفانس» في باريس بأبراجه، وعماراته، وزجاجه، وهياكله الإنشائية، التأليف النموذجي، للدلالة على حدود مدينة باريس، بجانب القوس الكبير، هناك.

10- خسئوا! يقول الحلبيُّون.
يقول كاتبٌ بريطانيٌّ، إذا أردت أن تُلغي شعباً ما... تبدأ أولاً بشلِّ ذاكرته، ثم تُلغي ثقافته وتاريخه وكتُبَهُ، ثم يكتبُ له طرفٌ آخرٌ كتُباً وثقافة أخرى، ويخترعُ له تاريخاً آخر.
عندئذ ينسى هذا الشعب من كان.... وماذا كان... وينساه العالم بعد ذلك...
خسئوا...
خسئ المراهنون على إلغاء الذاكرة الجماعية للمجتمع الحلبي...
خسئ العاملون على تدمير هُوية المدينة، وعلى تدمير أمكنة الذاكرة الجماعية فيها. وعلى تفتيت تماسك ناسها. حلب اليوم، تضجُّ بالحياة، وهي لم تعالج بعدُ، الدمار فيها.
خسئوا! بعد هذا التأكيد، أن التاريخ في حلب لن يلغي، وثقافة الناس هناك باقية، وذاكرتهم الجماعية باقية أيضاً، وكل ما يصنع شخصيتهم وهويتهم باق باق...
بعد هذا التأكيد، وهو حصيلة زيارة ميدانية، وأحاديث مع مسؤولين ومع الناس، سننتقل إلى دمشق، وفيها الآن أمثلة على نماذج مدينية غريبة مغرّبة، تقوم في أماكن خاطئة، لا بل مسيئة إلى البعد التاريخي للمكان حيث تقوم.

* معمار لبناني