قبل أيام، فجع الوسط الصحافي والاكاديمي المصري برحيل مصطفى اللباد (1965-2019). لقد هجر هذا الباحث المصري مساحة كبيرة شغلها منفرداً بين أقرانه من الباحثين والمحللين السياسيين. تردّد اللباد في إخلاء مساحته، عاد بشكل متقطع بما يسمح به مرض السرطان على مدار سنوات ثلاث، لكن الكلمة الأخيرة أتت، ورحل زميلنا ابن الفنان والمعلم محيي الدين اللباد، إلى الأبد. منذ الإعلان عن وفاته يوم الأحد الماضي، نعتْه أطراف متناقضة، اعتادت ألا يجمعها حتى عواطف الرحيل. قالت عنه الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين «ابن الجبهة الديمقراطية، وابن الحركة الوطنية الفلسطينية». الدوائر المقربة من النظام السياسي في مصر كذلك نعته. قال المجلس الأعلى للإعلام: «كان صاحب رؤية مهمة وأسلوب خاص ساهم في إثراء الدراسات المتعلّقة بتخصصه ومنحها عمقاً وبعداً جديداً يُحسب له، وسيظلّ منارة لمن يرتادون المجال من بعده». كذلك، فإن حتى المراكز البحثية المقربة من السلطة ودوائرها الأمنية أعلنت تعازيها في الراحل.على مدار سنوات طويلة، قدم مصطفى نموذجاً فريداً من الباحثين السياسيين، لا سيما هؤلاء المهتمين بالعلاقات الدولية والسياسات الإقليمية، إذ كان متخصصاً في الشؤون الإيرانية والتركية ووسط آسيا.
نموذج مصطفى اللباد بين زملائه يستمدّ فرادته من الموضوعية في التحليل والحسم في اتخاذ الموقف المُركّب. كان دقيقاً في معرفته بالشأن التركي، عارض سياسات أنقرة التوسعية. وقف ضد سياسات دولة قطر، وفضح اعتمادها على المال لتحقيق الطموحات السياسية الجبارة.
كان موقفه واضحاً ومحسوماً تجاه من صادف وباتوا «أعداء الدولة المصرية»، لكنه لم يكن عضواً في جوقة مثقفي السلطة.
موقفه من تركيا كان مغايراً لخطاب السلطة المصرية، وإن كان يصبّ في المسار نفسه. بالنسبة إليه، لجأت تركيا بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» للحكم إلى حجة «حماية أهل السنة» في المنطقة، بما يتضمن الدول العربية، الأمر الذي شكل حجر أساس المواجهة بين تركيا والسعودية. بالنسبة إلى إيران، كان موقف مصطفى المركّب تجاه الدولة الإسلامية مميزاً بين زملائه، ما جعل بعضهم يراه كأنه «متناقضاً».
أدرك اللباد حساسية الموقف الإيراني، وما شكلته «دولة الثورة الإسلامية» من تهديدات للنظام الدولي. وبالتالي فقد كان مدركاً لسياسات ذلك النظام ضد إيران.
لم يقع اللباد في موقفه من إيران في الفخ العاطفي، إذ قدّم تحليلات كاملة تأخذ العوامل المتناقضة في عين الاعتبار. وبالتالي كان مدركاً بشكل كبير للتفاوت بين الدور الإيراني في لبنان مع دورها في العراق مثلاً.
كان يرى أن إيران، إذا ما بقيت عالقة في أزمتها التاريخية مع العراق، فإن ذلك يدفعها إلى «إضعاف المجتمع العراقي، وتجاهل قضاياه لصالح تحقيق مصالح سياسية أخرى».
مقاربته «العروبية» تجاه إيران، والتي تأخذ العلاقات مع إيران إلى موقع أكثر حساسية على اعتبار قومي، تفرّق بين إيران التي تدعم حركات المقاومة ومناهضة «السياسات الغربية»، وبين إيران كمنافس إقليمي للدول العربية. وعلى الرغم من أن هذه المقاربة تقع في المساحة الكلاسيكية من فكرة «الجبهة المتحدة» أو «العمل السياسي المشترك»، إلا أن الحرص على عدم التماهي بالكلية مع «الجار الفارسي»، بدا كأنه وفّر حجة للبعض للنيل من مبدئية موقف اللباد. رحيل اللباد كان ثقيلاً، يذكرنا برحيل زميله الباحث حسام تمام، وبرحيل المحامين المناضلين أحمد نبيل الهلالي ويوسف درويش. الجميع، وبغض النظر عن التصنيف السياسي والأيديولوجي، يقرّ بالخسارة، وأكثرها أن الواقع سيتأخر ريثما يأتي بأمثالهم.