الإنسان هو ابن تاريخه وحكاياته. لكنّنا نُدرك جيداً أن ما يصلنا من التاريخ هو بعض فتات رماه لنا صيادوه، والمنتصرون فيه. كيف لنا أن نسبر الحقيقة، وأن ندرك ما حصل فعلاً؟ لن نعلم أبداً. «فطالما لم تجد الأسود من يروي قصتها، ستواصل قصص الصيد تمجيد الصّياد». وهذا ما يفعله بنا التاريخ الرسمي. جولة بسيطة على كتب التاريخ الرسمي ورواياته في غالبية البلدان العربية، تُطلعنا على الكثير من الانتهاكات بحقه: يُختَزل في بعض الدول، ويتعرض للاغتيال في البعض الآخر، سواء على يد الأقربين، أو على يد المستعمر والمحتل. في لبنان، لم يتم التوافق حتى الآن على منهج موحّد للتاريخ في النظام التربوي، لتعدّد الروايات، وعلى سبيل المثال، تتعدّد روايات الاستقلال من مدرسة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخر، هذا في ما يخص التاريخ الحديث، فما بالنا بالقديم؟
في فلسطين، ما زلنا شهوداً على المحاولات الحثيثة للكيان الصهيوني لاغتيال وإبادة تاريخ فلسطين، من مقدساتها وآثارها، وصولاً إلى أدق التفاصيل في الزي والعادات والمطبخ وغيرها. محاولات لا تكلّ ولا تملّ، تستهدف كل ما يمتّ إلى الذاكرة والتراث بصلة، وتحاول محوه من الوجود.


الحال ذاته في بعض البلدان العربية والخليجية، التي تستنبط روايات رسمية تلقي بظلالها على الذاكرة، وتحاول محو آثار أقدام من مرّوا بها، وحياتهم، لتحرف تراث وذاكرة هذه الشعوب، وتستنسخ مخلوقاً «هجيناً»؛ تنتِج تاريخاً رسمياً من النوع الذي يرى فيه إدواردو غاليانو «حروفاً ميتة تستعيد في عصرنا حروفاً ميتة للعصور الماضية». وهو محق في ذلك، فحروف التاريخ الحقيقي لا تموت.
يصف هنود بويبلو المكسيكيون راوي الحكايات وصفاً غريباً بعض الشيء. إنه رجل حامل، نعم، حامل، وبعدد كبير من البشر، إذ يروي الذاكرة الجماعية التي تحمل في طياتها قصص كثيرين، لكنها تزدهر بفضل عدد قليل من البشر.
حمل «مركز أوال للدراسات والتوثيق» على عاتقه توثيق وأرشفة الذاكرة الجماعية للبحرين، التي كانت تُعرَف سابقاً باسم أوال، فكان بذلك رجلاً حاملاً لتاريخ البحرين.
نصّب «مركز أوال» نفسه حارساً أصيلاً لهذه الذاكرة، آلى على نفسه نقلها بكل ما أوتيَ من موضوعية. فكان في جعبته الكثير من النتاجات، آخرها الجزء الأول من «أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية 1820-1971م»، وهي مجلدات ستة تغطي الأحداث التي شهدتها البحرين من عام 1820 حتى عام 1942م.
تجربة هذا المركز وُلِدت من رحم رؤيته لأهمية التاريخ، ومن استبصار مؤسسيه، وهم مجموعة من الباحثين والأكاديميين، لمشروع لم نشهد مثيلاً له في أيامنا هذه، على الأقل في البلاد العربية. حضروا دروس التاريخ المُمَنهجة، واختبروا فيها ما رواه غاليانو عن هذه التجربة. بالنسبة له، وأسمح لنفسي بالقول، وبالنسبة لهم أيضاً، «كان حضور درس التاريخ يشبه الذهاب إلى معرض التماثيل الشمعية أو إلى إقليم الموت، كان الماضي ميتاً أجوف وأخرس، فقد علّمونا الماضي بطريقة جعلتنا نستكين للحاضر بضمائر جافة، لا لنصنع التاريخ الذي صُنِع سابقاً، بل لكي نقبله. توقف التاريخ المسكين عن التنفس، وقد كان مخوناً في النّصوص الأكاديمية، وأُغرِق بالتواريخ، وقد سجنوه في المتاحف واستبدلوه تحت أكاليل الزهور ووراء تماثيل برونزية، ورخام تذكاري».
من أجل تغيير هذه المقاربة، خاض «مركز أوال» تجربته الخاصة، استعادة تاريخ البحرين، ومحاولة معرفة ما حصل فعلاً، وإن ورد على لسان المستعمر.

ماذا في الوثائق؟
إنها إنكلترا، التي «تعرف بقدر ما تعرف عن الذي يعرفها». وفي خزائن أرشيفها ووثائقها، يتماوج محيط من الأسرار. إنها إنكلترا التي أرادت على مرّ التّاريخ، وما زالت تريد، أن تستعمر وتسيطر وتتحكم. وهي، بإفراجها عن هذه الوثائق، تفتح كوة صغيرة في سد كبير من الأسرار، بموجب قانون مكتب السجلات العامة، الصادر في عام 1838، الذي يتيح، بعد التعديلات التي تمّت عليه، الوصول إلى السجلات والوثائق بعد مرور ثلاثين عاماً على إصدارها.
مجموعة الوثائق البريطانية تُعَد المصدر الأهم لتدوين تاريخ الخليج وساحل عمان، ومن بينها سجلات البحرين، بعضها يعود إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر، حين كانت البحرين مستعمرة من قبل المملكة المتحدة، قبل استقلالها.
تضم هذه الوثائق الكثير من الملفات، بمنظور بريطاني «دبلوماسي فصيح»، فيه مسح أرضي وبحري مفصّل لجزر البحرين، ومواردها ومواقعها، وقبائلها، والعلاقات بينها أيضاً، وكذلك السياسة البريطانية تجاه البحرين، كما تضم كافة المراسلات المتعلقة بها، والكثير أيضاً… باستثناء ما صُنِّف على أنه «سري».
في الواقع، أتاحت بريطانيا للجمهور ما تريد، واحتفظت بما تريد أيضاً. وضعت قيوداً على أيّ معلومات قد تتعلق بشؤونها الأمنية، وخاصة تلك المرتبطة بدول أخرى، ومن بينها المستندات المتعلقة بالعلاقات البريطانية - البحرينية في فترة ما قبل عام 1993، خشية المخاطرة بالعلاقات الدبلوماسية مع هذه الدول، والإضرار بمصالحها.
هي، كأي دولة مستعمرة، تخشى الإفصاح عن تاريخها، خاصة في ما يتعلق بمستعمراتها القديمة، إذ تضم وثائقها تفصيلاً لممارسات وفظاعات، مما لا يُحمَد عقباه، من انتهاكات وإساءات وقتل وحرق، ولها من أجل ذلك، أرشيف سري، موجود في منطقة «هانسلوب»، يحفظ أكثر من 8000 ملف خاص بـ 37 مستعمرة قديمة.

«فليحضر التاريخ»
«فليحضر التاريخ»... قصيدة مدوية تستنهض همة الفلسطينيين، وكذلك همة جميع الشعوب التي عانت من غياب تاريخها. لم يدرك الشاعر مريد البرغوثي، حين ألقاها على مسرح الجامعة الأميركية في بيروت في آذار (مارس) من عام 2009، أن دوي صوته سيصل إلى «مركز أوال»؛ أنصت لهذا النداء، فقه معناه، ولبّاه بترجمة هذه الوثائق وتنضيدها وتهميشها وفهرستها، على الرّغم من ورودها بلسان المستعمر وقلمه.
«أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية» غوص في ماضي البحرين. والمركز، الذي يُعنى بأرشفة وتوثيق ذاكرة البحرين، ألقى شباكه في محيط القرون الخالية، علّه يحظى ببعض لآلئها.
«فليحضر التاريخ فوراً». في مجلدات أرشيف البحرين، يتردد الصدى. لم يعد الصوت صوت مريد، ولا أي شخص آخر، أصبح صوت البحرين، الأرض التي يشهد بحرها وأرضها وشعبها، وحتى رفات ساكنيها منذ حضارة دلمون القديمة على الحكاية، على ما كان أولاً، قبل مجيء الآخرين، قبل مجيء المستعمر، قبل مجيء كل من حلّ «ثانياً» في ما بعد.
يحفظ التاريخ الحكاية الحقيقية للبحرين، بحاضرها وماضيها، وشاهدها وغائبها، وبرفات الشهداء النائمين بسكينة في أحضان ترابها، غيابه ليس مقبولاً بالنسبة لها، هو يدرك أن البحرين ملك لأهلها، أولئك الذين يزرعون أرضها ويغوصون في أعماق بحارها، يقطفون ثمار نخيلها، ويرتادون مجالسها ومآتمها، أولئك الذين يرسمون بالدّم حكايات نضالها وتضحياتها الجسام…
من ناحيته، يدرك التاريخ أن البحرين أرض رغبت منذ نشأتها في أن تمارس الحياة اليومية بتفاصيلها البسيطة، ويرغب في إيصال هذه الحقيقة وحفظها.
البحرين بدورها لا تريد لحُراس التاريخ أن يوقفوا محاولاتهم الحثيثة لحفظه، فتلك مهمتهم، من أجلِها وُلِدوا، هي علّة وجودهم، ليخلّدوا ذاكرة الشعب. إنها رسالتهم للتاريخ والبحرين أولاً، وللإنسانية عموماً.
«أرشيف البحرين في الوثائق البريطانية» المشروع الأهم لـ «مركز أوال للدراسات والتوثيق» منذ انطلاقته، وهو حالياً يستكمل العمل في الجزء المتبقي منه، لكنّه لن يكون المشروع الوحيد، فتاريخ البحرين خصب، وذاكرته ولّادة.

* باحثة ومترجمة من لبنان