الرباط | في زمن انحسار المجلات الثقافية، عادت مجلة «الثقافة المغربية» إلى الصدور بشكل مغاير وبمضمون متطوّر، بعدما تسلمت مسؤولية الإشراف عليها نخبة من المثقفين المغاربة هم: صلاح بوسريف مديراً، عبد الله شريف ويحيى بن الوليد وشفيق الزكاري في هيئة التحرير، ومحمد مفتاح، وسعيد بنكراد، وسعيد بنسعيد العلوي، وموليم لعروسي، وحورية الخمليشي في الهيئة الاستشارية.تعدّ مجلّة «الثقافة المغربية» التي تصدرها وزارة الثقافة والاتصال من بين أقدم المجلات المغربية، صدر عددها الأول سنة 1970، بمبادرة من محمد الفاسي، أوّل وزير للثقافة في المغرب، وكان وزيراً مثقفاً، أسهم في الأعداد الأولى للمجلة بعدد من الدراسات التي تختصّ بموسيقى الملحون وغنائه.

اللقطة الفائزة بجائزة الصورة المنفردة في المغرب لعام 2019 - إسماعيل إسماعيل كلاكستون

ورغم ما عرفته المجلة من توقفات، فهي لا تفتأ تعود إلى الحياة، وقد صدر منها 39 عدداً، إضافة إلى الأعداد العشرة الأولى التي لم تُحْتَسَب ضمن الرقم التسلسلي للمجلة، حين استأنفها الوزير السابق محمد بنعيسى، رغم أنه حافظ على الاسم نفسه.
تبدو المجلة كما لو أنها تصدر للمرة الأولى، رغم استمرار تسلسلها العددي السابق، كون الشكل والمضمون اللذين جاءت عليهما شكّلا تعبيراً جديداً يُسايِر طبيعة التحوّلات التي عرفتها المجلات في العالم العربي، وفي العالم. تمّ تغيير التبويب بشكل جذري، فشملت المجلة أبواباً في الأنتربولوجيا، وحواراً دائماً في كل عدد، وملفاً من الملفات الراهنة التي تطرح قضايا وأفكاراً جديدة، أو مما هو مدار نقاش وحوار في زمننا الراهن، ثم باباً في الفنون يضمّ التشكيل والسينما والموسيقى والمعمار، والتصوير الفوتوغرافي، والنحت، وباباً خاصاً بكتابات فكرية ونقدية، ونصوصاً إبداعية في الشعر والقصة، ثم باباً بعنوان «النبوغ المغربي»، وفيه تُعيد المجلة إحياء نصوص قديمة فكرية ونقدية، في كل مجالات المعرفة. نصوص كانت قد طرحت أفكاراً وأسئلة لم يتم الانتباه إليها في زمنها، إلى جانب باب بعنوان «لسان الآخر» يحوي ترجمات لنصوص غربية استثنائية، لم تتم ترجمتها من قبل.
وكتحية للغائبين من الكتّاب والمفكرين والفنانين والمبدعين، حرصت المجلّة على أن تخصص باباً بعنوان «فصوص الغائب» للراحلين المغاربة الذين كتبوا بلغات مختلفة. يضاف إليها توظيف تقنيات التوزيع الطباعي الحديث، واستعمال الألوان، للعمل على نشر الأعمال الفنية في صورتها التي هي عليها، خصوصاً في مجال التصوير الفوتوغرافي والتشكيل والسينما، وحتى المعمار.
العدد الجديد، الذي وصل إلى الأسواق متأخراً كان ملفه حول «ثقافة التسامُح»، السؤال الذي يمسّ واقعنا العربي اليوم بصورة كبيرة وملحة، وفيه طرحت المعاني القصوى لمفهوم التسامح، سواء في الثقافة الغربية، أو في الثقافة العربية الإسلامية. وقد أسهم فيه أساتذة ومفكرون ونقاد من مثل عبدالسلام بنعبدالعالي، وسعيد بنسعيد العلوي، وسعيد بنكراد، ومحمد الحيرش، وعبد العزيز بومسهولي وعبد الصمد الكباص، وغيرهم.

أنجز غلاف العدد الفنان شفيق الزكاري

وكان حوار العدد مع الناقد المعروف محمد مفتاح، حول مساره الشخصي والفكري، ومشروعه النقدي. وقد درجت المجلة في صيغتها الجديدة، على الدخول إلى ورشة فنان تشكيلي، ووضع تجربته أمام القارئ بمختلف أبعادها، وما تمثله من أفق تعبيري جمالي. وفي العدد، كتب سعيد عاهد عن تجربة الفنان والناقد التشكيلي نورالدين فاتحي. كما شارك المهندس المعماري المعروف عبد الواحد منتصر، بمقالة عن «المدينة واللامدينة»، وسعيد المغربي بدراسة عن «الفكر الموسيقي في المغرب»، ومحمد شويكة عن السينما، وعبد السلام أزدام عن النحت، وقدّم بوجمعة العوفي قراءة في صور فوتوغرافية لنور الدين لغماري، وهي بورتريهات لفتيات تختلف سحنات وجوههن وتعبيراتهن وما يقلنه من خطابات. وكتب بنيونس عميروش عن التجريب في التشكيل المغربي.
ضمن مواد المجلة، قدم محمد الولي ترجمة أولى غير مسبوقة بعنوان «الاستعارتان الكبيرتان، الاستعارة في العلم والشعر» لخوسي أورتيغا إي غاسيت عن اللغة الإسبانية، وهي ترجمة تُعيد تأمل الاستعارة في أفق مغاير، في كل من العلم والشعر. ضم العدد ترجمات أخرى، منها نص لجورج أورويل، ترجمه الشاعر نورالدين الزويتني عن الإنكليزية، حول «مراكش» التي أقام فيها في لحظات مرضه، وكتب عنها، ونص لأمبرتو إيكو، ترجمه عن الفرنسية المسرحي والشاعر عزيز الحاكم، وهو «رسالة إلى حفيدة» عن استعمال وسائط التواصل الاجتماعي.
في باب «النبوغ المغربي»، ذكّرنا صلاح بوسريف مجدّداً بدراسة مهمة لعبدالله إبراهيم، الذي اعتقد الناس أنه رجل سياسة فقط، ليستعيدوا الجانب الثقافي والعالم في مسار الرجل، ونصه كان عن الشِّعر، والتجديد في الشعر، بعنوان الحاجة إلى هوميروس، أو النص الشعري الملحمي، بدل الغنائي الذي استنفد غنائيته. في «فصوص الغائب»، كتب مصطفى القباج عن المفكر والفيلسوف محمد عزيز لحبابي، والناقد نجيب العوفي عن الشاعر محمد الخمار الكنوني. هناك الكثير من المواد التي اغتنت بها المجلة الدورية، في عددها الذي جاء في 464 صفحة، وقد أنجز غلافه عضو هيئة التحرير الفنان شفيق الزكاري.
استعاد العدد الروائي الراحل محمد زفزاف

على الغلاف الخلفي، هناك استعادة لبعض الراحلين من الكتاب بعنوان «حاضرون معنا»، من خلال صورهم، ومقطع دالّ من كتاباتهم. والعدد يستعيد الروائي الراحل محمد زفزاف، كما استعاد العدد السابق الشاعر الراحل أحمد بركات. وبعدما كان الجزء الأوّل من كتاب «تاريخ الأدب العربي في المغرب الأقصى» لمحمد بن العباس القباج هديّة العدد 38، أرفق العدد الحالي بالجزء الثاني منه. وقد جاءت افتتاحية العدد تحت عنوان «مغرب التنوع والاختلاف»، نقرأ فيها: «الأفق الذي نعمل في سياقه، هو أفق الحداثة والتحديث، أفق الفكر والإبداع اليقظ، الحي المتجدد التي لا يفتأ يسائل نفسه، وما يفتحه من طرق ومنعطفات، فالثقافة المغربية اليوم، هي ثقافة تنوع وتعدد، ثقافة تساير زمنها بتأمل وإنصات ونقد ومراجعة، وهذا هو مصدر إبداعيتها».