حياة محمد آصف سلطان زاده مليئة بالمفاجآت، وفي أقل تقدير بالمحطات. مَن يقرأ روايته «وا حسرتاه يا ملا عمر» الصادرة عام 2013 (نقلها غسان حمدان أخيراً إلى العربية ـــ دار الرافدين)، يسأل نفسه إن كانت فعلاً عن الملا عمر عبر أفغانستان، أو عن الكاتب عبر الملا عمر، أو عن الكلّ عبر رواية مسرحية لبلاد معلّقة بين الأرض والسماء. فلينزل العذاب على قبوركم. هذا ما يقوله الكاتب باسم بطله في إحدى المحطات بوضوح تام، وما يقوله بطرق ملتوية في محطات أخرى كثيرة. في روايته التي يتجول فيها الملا الأفغاني الشهير بين الحياة هذه ومثيلتها في الغيب، يعلق أحياناً في برزخ يتخيّله الكاتب، هو نفسه برزخ البلاد المجمدة فيه منذ تاريخ بعيد. هل هي لعنة الجغرافيا؟ في مدينة كابول وفي البرزخ، كان الملا مغتراً بنفسه في الليالي الثلاث لمحطم الأصنام. وهنا يصير النص حساساً ويحمل كماً من الألغاز سرعان ما يحرف الكاتب النظر عنها بتحويلها إلى لعبة في التاريخ. فمحطمو الأصنام في التاريخ «أكثر من ثلاثة». وعلى القارئ أن يكون عارفاً بالتاريخ الفارسي لكي يلعب اللعبة، إذ أن أحمد شاه دراني هو أحد الأبطال من بين «محطمي الأصنام بمعركته الشهيرة في «باني بت»، لكن الملا عمر أقواهم». وأحمد دراني كان قائداً في جيش نادر الشاه، القائد التاريخي الكبير. سرعان ما يعود الكاتب إلى الهزل كطريقة للبوح.

سجّادة حاكتها يدويّاً نساء أفغانيّات في تقليد بدأ عام 1979، ويتمثّل بنقل مشاهد الحروب ورسومها إلى السجّادات المحليّة (الصورة لكيفين سوديث)

عاش محمد آصف سلطان زاده (1964) حيوات ثلاث هو الآخر. واحدة حيث نشأ في أفغانستان، كما عرف باكستان وإيران، حيث صار يكتب بلغة الأخيرة وطوّر موقفاً واضحاً من المنطقة كلها بواسطة الفارسية وعن طريق بشتونية فريدة، اكتملت رؤيتها من بعيد، هناك في الدنمارك حيث حياته الثالثة. هكذا من هذه السيرة وضع تاريخاً لأفغانستان وعلاقتها بإيران والهند وغيرهما من على خشبة مسرح، تدور أحداثه في الواقع، لكنه يتحدث من فوق هذا العالم. الرواية أشبه بدعوة إلى العودة إلى التاريخ، والنظر إليه من فوق خروجاً منه، بلغة لا تخلو من التذمّر وشحن الطرافة بالمواقف الحادة: «الغربيون كالسوفيات». والسوفيات ليسوا غربيين، لكنهم أيضاً سبب في تعاسة الأفغان... «فمن أجل مصالحهم أمطر هؤلاء بلادنا بأسلحتهم». لكن هل كانت تلك مصالح السوفيات فعلاً أم أنهم غرقوا؟ «الشيوعيون أساس تعاستنا»، يصرخ الملا على إحدى خشبات سلطان زاده السوريالية، وسينتبه وينبه لاحقاً إلى دور الغربيين أيضاً.
يحاول إخراج الملا عمر من داخله ومن داخل المهمشين. «جميع أهل قندهار كانوا يعلمون أنه ليس إلا أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة الغازي، الذي سوف يظهر في آخر الزمان ويملأ العالم عدلاً وقسطاً بعدما يكون قد امتلأ ظلماً وجوراً». يفاجئ القراء بسعة معرفته بأحوال بلاد البشتون وبقدرته على التخيّل معها وضدّها. وفي مشهد الثامن، يظهر ملا عمر آخر «زائف». لديه شكوك دائمة ولذلك اختار سيرة ما ورائية للملا أصلاً منطلقها كان الوجود نفسه. وهذا الملا الذي يخرجه محمد آصف سلطان زاده هذه المرة يخرج في منطقة الشاه شهيد. وقد استطاع الملا عمر الأصلي العثور عليه في مكانه بعد بحث طويل. ولم يكن الملا عمر ينكر أنه الملا عمر. هل هناك ملا عمر بصور أخرى؟ أسئلة عاجلة يؤجلها السرد المتحرك ويكتفي بتقديم إجابات لأسئلة فقط في رأس صاحبها. رأس تتجول على جسر «بل سوخته» الذي لم يكن فيه احتراق، وقد انهار تماماً، كأنه قد سقط بفعل الفيضانات، ثم تنتقل إلى الأسفل حيث تعاين تجسيداً لعذاب آخر: «كان أهل الجحيم يتلوون حول بعضهم البعض. النار والدم والصديد والقيح والفناء والفناء الأبدي. ظللت واقفاً على الصراط، ومن الأسفل رفع آلاف من أهل الجحيم أيديهم إليك طلباً للمساعدة. وتزلزلت الصراط واضطربت لكي لا تنزلق وتهوي برأسك في الجحيم».
رغم حدة موهبته وقدرته الرهيبة على صناعة ثوب أدبي متماسك يجمع بين الحدة والطرافة، ويمتد بين برزخ سردي يتأرجح بين الحقيقة والخيال، يسقط النص أحياناً في إعجاب سطحي بالغرب، أو ما يبدو كذلك للوهلة الأولى، قبل أن يعاد توجيهه. في أحد المشاهد، ينقل الكاتب عن بطله أنه «لم يكن يخاف من الطائرة بل كان يكره التكنولوجيا التي صنعت على يد الكفرة. وكم شعر بالكراهية عندما وافق على ذلك الضوء الكهربائي الذي يبدو في رأيه نجساً». وبقي كذلك حتى أنه عرف أنهم ينتجون الكهرباء من الماء، وبما أن الماء طهور ويمكن أن يغسل الكهرباء... «اذاً غسلت الكهرباء ويمكنها دخول بيته لتغسل الليل والظلام».
يسقط النص أحياناً في إعجاب سطحي بالغرب

ليس منبهراً بصناعة يعرف أسباب تطورها، بقدر ما هو نقدي للقراءة النصية للنص الديني، ولديه طريقته الحادة في إعلان موقفه من القراءة ومن قرائها على اختلاف مشاربهم: «لقد كان بريجينيف لعنه الله، أو ربما كان خروتشوف، إن لم يكن غورباتشوف، يحكي لرئيس الجمهورية الأميركي عن درجة كثافة الفودكا الروسية، وكان يشعل النار بالقداحة في كأس الفودكا ثم يتجرعها». يطلق مدائحه للأفيون والحشيش ويذم آيات الله الإيرانيين بدورهم أيضاً... «واصلت طريقك، يا ملا، منتشياً ومبتسماً من هذا الشارع إلى ذاك الشارع، وقبل ذلك من رؤية اللافتات بالفارسية والبشتونية والإنكليزية، حوارات المارة سواء كانت بالفارسية أم بالبشتونية، لقد كانت مفهومة بالنسبة إليك...».
هل الملا عمر صناعة أم نتيجة؟ المسرحية بارعة في كثافتها كما لو أنها حفر عميق في مساحة ضيقة. لكن الأسئلة تبقى مفتوحة، والإجابة غير موجودة في سبع ستائر تنسدل وترتفع من الفردوس إلى الجحيم، وتعلق أحياناً في البرزخ الأفغاني كما يتخيله محمد آسف سلطان زاده. نصر من أميركا وفتح قريب؟ هذا مضحك فعلاً، يقول، وهو يعرف حاسماً أن الحرب وإطلاق الرصاص جزءان لا يقبلان الانفصال عن طبيعة الحياة في هذا العالم. لكن عندما أصاب الدوار رأسه من التفكير، وكانت السماء خالية من الطيور، سأل نفسه بم تفكر الطيور الصغيرة التي تخرج برؤوسها من البيضة؟ الإجابة في مكان آخر، في برزخ آخر، في فصل من الجحيم: «دائماً ينمو الحقد في وجودي وينمو على هؤلاء الأفغان البلهاء أنهم رجال، والعرب الثيران العبيد لبطونهم، والإيرانيين المصابين بجنون داء العظمة التافهين والفارغين من الداخل، والباكستانيين المحتالين المخادعين، والروس الغامضين الزائفين قساة القلوب، وفي كلمة واحدة الحاقدين والخطرين كالنازيين، والأميركيين الكذبة العنيفين، والصينيين قليلي الكلام المحتالين».