محمد سيدة! كما لو أن منذر مصري اخترع هذا الاسم، من دليل الهاتف، في إحدى نوبات طيشه الشعري. شاعر في الظلّ، أو «هامش الهامش» وفقاً لعنوان الأشعار الكاملة (دار التكوين) التي تمكّن مصري من جمعها أخيراً. كنّا تعرّفنا إلى محمد سيدة (1941- 2003) خطفاً، في الحيّز المخصص له في كتاب مشترك بعنوان «أنذرتك بحمامةٍ بيضاء» بصحبة منذر ومرام مصري. بدا هذا الاسم المجهول حينذاك (1984)، نافراً في شعريته وسخطه ومعجمه: «جُرحي هِرمُ، ينزفُ في موضع مهجور» يقول. لكن هذا الاسم اختفى إثر هذه الوليمة الجماعية، ولم يعد متداولاً إلا في مدوّنات منذر مصري المتباعدة، فهو ساعي بريده لدى الآخرين، وحامل أختامه الشعرية المجهولة، كما سيفاجئنا باعتراف خطير بأن هذا الشاعر الذي كان عامل كهرباء، ويقطن قبواً رطباً، بصحبة طيوره وكتبه، قائلاً: «معلّمي»! لاحقاً سيصدر مجموعة شعرية بعنوان «لو كنتِ وردةً حمراء حقاً» (2001)، لكنها لم تثر ضجيجاً نقدياً يليق بها وبه، رغم خصوصية نبرتها، وإيقاعها المشعّ، وطهرانيتها ووحشيتها في آنٍ واحد. نصوص في الحب والوحدة والخذلان، بدفاع شرس عن سفنٍ مهاجرة لحظة غرقها المؤكد. عاشق هشّ ومكسور ونهم، يتوهّم حبّاً ودفئاً وأوسمة «لو أنزلتِ حملَكِ الثقيل/ الثقيل والمنهك/ عن كتفي/ لأصبحت قشةً تحت كعب حذائك». كان لسيرة هذا الشاعر أن تنتهي هنا كعلامة فارقة، أو كومضة عابرة في سماء الشعر السوري، لكن قصائد مجهولة اكتشفها منذر مصري أخيراً، في حافظة بلاستيكية زرقاء، كانت شقيقة الشاعر الراحل نجاح سيدة تحتفظ بها، أعادته إلى الواجهة بقوة. إحدى عشرة قصيدة مطبوعة على الآلة الكاتبة، على الأرجح أنه كتبها قبل غيابه بقليل، قصائد حسرة وطعنات ووحشة «يتوه الحب كطفلٍ مشرّد على قمة جبل/ تتساقط عليه الثلوج/ وتتنادى في أعماقه الذئاب/ إلى وليمةٍ غامضة».
على الضفة الأخرى، سنتعرّف إلى السيرة الشخصية لهذا الشاعر الشقي الذي اكُتشفت جثته في أحد برّادات الموتى في المستشفى الذي نُقل إليه، إثر جلطة دماغية أثناء وجوده في سوق الجمعة في مدينة اللاذقية. لا بطاقة شخصية أو أي وثيقة تدل على صاحبها، إلى أن تفقدته أخته بعد عشرة أيام على موته. كانت غرفته غارقة بالمياه، وقد تبللت كتبه، كما ماتت عصافيره في الأقفاص. في مخفر الشرطة، أبلغوا أهله بوجود جثمان رجل مجهول الهوية، في قسم المفقودين، فأدركوا أن المقصود محمد سيدة، طالما أنه توفي في سوق الجمعة، هذا السوق الذي كان أحد هواياته المفضّلة «في سوق الجمعة هذا، تستطيع في أي ساعة جئت، ودون كثير بحث، أن تلتقي محمد سيدة، منحنياً فوق بسطات المجلات والكتب المجاورة لبسطات الملاعق والانتيكات النحاسية، أو حائماً حول أقفاص الكناري والحساسين والحمام والارانب. أو ربما يقف على مسافة، لا يفعل شيئاً، ينظر إلى الناس، عسى يلتقي بأحدٍ ما من معارفه». هناك أيضاً، محاولات انتحار فاشلة، بتأثير قصص حب محبطة، لم تكتمل يوماً، فهو العاشق سيئ الحظ على الدوام، هذا ما نجده في أشعاره بجلاء. ذلك أن هذا العامل بثيابه الزرقاء الملوّثة بالزيت، سيقع في الحب مراراً، لكن من دون استجابة، من أي امرأة أحبها: «فإن كنتِ تحترقين لأجلي مثل شمعة/ فأنا أحترق لأجلك مثل غابة». ترداده لأقوال لينين بوصفه شيوعياً عتيقاً، لن يشفع له بعيش مختلف، فقد ظلّ هامشياً في حياته وشعره. يشير منذر مصري، في أكثر من مكان، إلى العلاقة المضطربة مع صديقه القديم، وإصراره على استمرار هذه الصداقة غير عابئ بمناكفات محمد سيدة ضد صديقه البرجوازي «ولكن حتى في أشدّ حالات صداقتنا تدهوراً، لم أبطل من تردّدي على قبوه، ولم يبطل هو أن يقرأ لي للمرة العاشرة القصيدة التي كتبها من ثلاثة أشهر». كتابة نزيهة وصافية لا تنقصها الاعترافات، أرادها صاحب «الشاي ليس بطيئاً» أن تكون شهادة حميمة ونقدية في آنٍ واحد: «كان على بساطته الظاهرية في الكتابة، وضعفه في اللغة، كقواعد ونحو، يعمل كنحّات، وصائغ مجوهرات، لقصيدة خاصة، تتصف بإدراك عميق لروح اللغة، ودقة فائقة في القبض على المعاني». ويضيف: «منه أيضاً تعلّمت أن القصيدة، مهما صغرت، تُكتب ألف مرة، وكل مرّة تختلف عن الأخرى، اختلافاً صغيراً لا غير، ولكنه هام وخطير». الآن فقط نقتنع جيداً، بأن محمد سيدة كائن حقيقي، كان بيننا، لكن وجوده في «هامش الهامش» جعلنا نظن بأنه مجرد طيف متخيّل. يؤكد منذر مصري ثانية بأن صديقه «أورثنا شعراً، شعراً يستحق منّا أن نكرّر قيامنا بتلك المسرحية: نتظاهر بأننا فجعنا بفقدان موهبة استثنائية... ولكن بعد موته».
ألم تحدث المسرحية نفسها قبلاً؟ لنتذكّر دعد حداد، ورياض الصالح الحسين، وحتى إياد شاهين!