يصدر قريباً عن مؤسسة «درابين الكتب» في العراق، كتاب «حكايات عن ماركس» (ترجمة كامل ناصر) للمؤرخ ويلهيم ليلبلينخت. نُشر الكتاب للمرة الأولى عام 1896 أي بعد وفاة كارل ماركس (1818-1883). الكتاب بمثابة سرد لحياة مُنظّر الاشتراكية العِلمية، وهذا ليس بجديد، فقد أُنجزت عنه آلاف الكتب، لكن الاستثنائي في هذا الكتاب يكمن في مؤلّفه ويلهيم ليلبلينخت (1826-1900) الزعيم الاشتراكي الألماني، وأحد مؤسّسي الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني عام 1869، ووالد كارل ليبكنخت (1871-1919) الذي سيسهم في إنشاء «عصبة سبارتاكوس» عام 1916. علماً أنّ الأخيرة شكلت بعد سنتين نواة الحزب الشيوعي الألماني إلى أن قتل ليبكنخت برفقة روزا لوكسمبورغ (1871-1919) أثناء محاولتهما إطلاق ثورة اشتراكية داخل الأراضي الألمانية على غرار الثورة البلشفية الروسية عام 1917.

يقول ليبكنخت الأب أو ليلبلينخت (حسب الترجمة المطروحة أمامنا) في مقدمة الكتاب المنشورة في الأرشيف الماركسي على الإنترنت: «طُلب منّي مئات المرات أن أكتب عن ماركس وعلاقتي الشخصية به، لكنني رفضت دائماً القيام بذلك. وكيف يمكنني تبرير هذا الرفض؟ أظن السبب المناسب يعود إلى الرهبة، أو المهابة من شخص ماركس. فالكتابة عن ماركس بوصفه موضوعاً تفرض التزامات ثقيلة. فهل يمكنني تحمّل هذه الالتزامات؟ هل لي القدرة؟ هل لديّ الوقت؟ سيكون أيّ تسرع أو قراءة سطحية لحياة ماركس يعني الكثير من قلة الاحترام». وبالتالي، كان عمل ليلبلينخت دقيقاً رغم صغر حجمه. في النسخة الإنكليزية، لا يتجاوز الكتاب الـ 200 صفحة، ولكن ليلبلينخت قدّم سرداً لحياة وأفكار ماركس بهدف تقريبه إلى العمال، وإلى أعضاء الحزب، إيماناً منه بأن تدويناً تاريخياً مُبسطاً بقلمه، خصوصاً أنه كان قريباً منه سيكون ذا قيمة في طرح المنهج الماركسي للآخرين. ورغم أنه وصف عمله بـ «غير المكتمل»، إلّا أنّ نشر سيرة ناقصة بمجهود فرديّ خير من طمس السيرة كلها ـ على حد تعبيره ـ خصوصاً أنه أثناء تفكير ليلبلينخت في إعداد سيرة ماركس، توفي رفيق درب الماركسية فريدريك إنجلز (1820- 1895)؛ وهو الشخص الوحيد الذي ارتبط على الصعيد الفكري وعمل على بلورة الفكر الاشتراكي العلمي مع ماركس، وكانت تربطه صداقة حميمة بماركس وأسرته خلال وجود الأخير في لندن حتى بداية ستينيات القرن التاسع عشر.
لذا، قرر ليلبلينخت أن يتذكر الأيام التي قضاها في بيت كارل ماركس منذ صيف عام 1850 حتى بداية عام 1862، وقد اعتُبر جزءاً من عائلة ماركس. بالطبع، ليس وحده فقط. وجد كثيرون غيره قبولاً في بيت ماركس الذي كان بمثابة مأوى للبوهيميين والهاربين واللاجئين وحتى الحيوانات. لكن صداقة مباشرة بين ليلبلينخت وماركس امتدت على أكثر من عقد، وفي وقت مليء بالأحداث، وعصر أصبح فيه الاشتراكيون مطاردين وأكثر عرضة لانطباعات سلبية عميقة ودائمة، ويتعرضون لحرب شائعات لا هوادة فيها في كلّ أوروبا. وفي تلك الأيام، كانت الإقامة المستقرة بالنسبة إلى الاشتراكيين حلماً بعيد المنال. وإلى جانب المطاردات الأمنية، كانت هناك استحالة في تأمين مصدر دخل في لندن، وقاد الجوع الكثير من رفاق ماركس إلى الهرب إلى أميركا، عَلّهم يجدون مسكناً ولقمة خبز وإحساساً بالأمن. وكان ماركس أكثرهم حظاً، فقد منحته لندن مكاناً دائماً للإقامة في أحد مقابرها.
يتذكر ليلبلينخت تلك الأيام الصعبة بالكثير من الأسى، لكنه يكنّ الكثير من الوفاء والشكر لمنزل ماركس، معتبراً أنّ هذه الظروف كانت مثالية كي يتعلم المرء ويرى أموراً لم يكن ليدركها في ظروف أخرى. لذا يتواضع ليلبلينخت رغم تاريخه النضالي أمام ماركس ويقدّم نفسه بوصفه تلميذاً له بالمعنى الأوسع للكلمة. فقد كان صديقاً ليس بشكل عابر بل صديق مُقرب. حتى بعد عودته إلى ألمانيا، ظلّ على اتصال مستمر وحميم مع أسرة ماركس؛ والصورة التي طبعها الأخير على روحه واضحة وحاضرة، إلى درجة أن ليلبلينخت أمل ألا يضيع الكثير من التشابه والحيوية في نقل هذه الصورة إلى كتابه.
ويلخّص طريقة كتابة هذا الكتاب قائلاً: «ماركس، رجل العِلم، رئيس تحرير مجلة Journal of the Rhine، أحد مؤسسي الحوليات الألمانية-الفرنسية، وأحد مؤلفي البيان الشيوعي، رجل يقف أمام العالم كله، هو هدف للنقد، بل رجل أعاد صياغة النقد، كنت أحاول الكتابة عن هذا الإنسان، من دون أن يتّهمني أحد بالحماقة، خاصة أنه لم يكن على اتّصال مباشر مع الجماهير، البروليتاريين من جميع البلدان، الذين كرس حياته لتحريرهم ومنحهم السلاح النظري لمساعدتهم لخلق حالة ثورية تخلصهم من القيود حول أعناقهم. كيف يمكن تلخيص فكر هذا الشخص؟ كيف يمكنني تصوير حياته؟ هذه المهمة تُعد إعجازاً عِلمياً، قد يؤدي بي إلى الجنون مهما وضعت له الخطط لإنجازه».
تضمّ صفحات الكتاب المُترجم حديثاً إلى العربية، محاولة ليلبلينخت لكي يوضح كيف كان ماركس مختلفاً وكيف عَمِلَ كمدوّن لسيرته كي يجعله قريباً من الناس مثلما كان بين أصدقائه، ومع زوجته وأطفاله، وكيف يُظهر قلب ماركس الكريم إلى جانب عقله الكبير. واعتقد ليلبلينخت طوال تدوينه هذه السيرة وإن كانت بشكل غير مكتمل ــ كما أشرنا سابقاً ــ وعبارة عن تدفق لأفكار وذكريات سريعة، أنها ستكون أفضل من عدم التدوين على الإطلاق. فقد شعر أن الكتابة عن ماركس خصوصاً بعد فرار أو سجن أو موت أو قتل من عَرفوه عن قُرب، واجب ثوري، خصوصاً ضد خصوم ماركس الذين عَمِلوا على صُنع نموذج لرجل فوضوي متبلّد المشاعر وبلا قلب.
ومن المهمّ الإشارة إلى طريقة تفكير ليلبلينخت التي ترفع فكرة الصنمية عن ماركس، وترفع تشبيه الدراويش عن الماركسيين. إذ يشير إلى أنه لم يقم بتدوين كل كلمة وكل حركة لماركس، فهو لم يكن لديه أصنام. ولحسن الحظ، قد عرف رجالاً عظماء في وقت مبكر بصورة حميمة إلى درجة أن إيمانه بالأوثان والآلهة البشرية قد دُمر في فترة مبكرة من حياته. وأضاف أنّ ماركس لم يكن أبداً صنماً بالنسبة له. وعلى الرغم من كل البشر الذين قابلهم في حياته، كان ماركس الشخص الوحيد الذي ترك انطباعاً كبيراً فيه. لكن للأسف، فايزايا برلين (1909 – 1997) في مقدمته للكتاب لم يحترم هذا الفكر وشبّه ماركس بـ «النبي» وأعطاه هالة مِن القدسية يرفضها ماركس كما يرفضها مؤلف الكتاب ويلهيم ليلبلينخت. لكن هذا الأمر عائد لخلفية برلين الليبرالية التي دائماً ما ترغب في تجميد الماركسية وتقديمها بوصفها دوغما دينية ليسهل التخلّص منها. على أي حال، وصف ليلبلينخت عمله قائلاً: «مساهمة صغيرة في رسم صورة كاملة لماركس المدفون في ذاكرتي. وأخيراً، أليس هذا واجبي؟».