تدمر بعد زنوبيا 273-750 م: إعادة تقويم تاريخية وآثارية.
Palmyra after Zenobia ad 273-750: an archaeological and historical reappraisal. Oxbow books 2018. 272pp. Emanuele E. Intagliata


من منّا لم يسمع بالواحة الخضراء تدمر وما ألحقت بها قطعان الوهابي إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) المنتحر (؟) التي احتلّت المدينة؟ آثار تلك المدينة التي قاومت نحو عشرين قرناً الحروب والكوارث الطبيعية والتأثيرات المناخية، كانت، وما زالت، شاهداً على تاريخها الحيوي، التي تحدّت يوماً روما، وامتدت تخومها لتضمّ معظم بلاد الشام وبابل وشمالي الحجاز بل حتى المحيط الهندي جنوب جزيرة العرب وآسيا الصغرى ومصر.
تدمر الواحة التي لم تملك من الموارد سوى أشجار النخيل (اسمها اللاتيني يدلّ على ذلك: مدينة النخيل، أمّا اسمها الفعليّ بلغة المدينة وهي فرع من الآرامية هو «تدمرتا» أي المدينة التي لا تُقهر/ الأبدية) ميّزت نفسها بأبجدية خاصة بها يُطلق عليها اسم التدمرية، ووصلت منذ القدم إلى مستوى حضاريّ رفيع مستفيدة من موقعها على خطوط التجارة القديمة الممتدّة من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً، خصوصاً عندما كانت متحالفة أو لنقل تابعة للإمبراطورية الرومانية.


من المعلوم ورود ذكر تدمر في النقوش والكتابات العائدة إلى الألف الثانية قبل التأريخ الشائع، لكنّها وصلت إلى قمة تألّقها إبان حكم ملكها أذينة الذي قاد حرباً على الفرس وهزم حوالى عام 260 من التأريخ الشائع (ت ش) قوات الإمبراطور الساساني سابور الأول.
ملكة تدمر زنوبيا («بت زباي») التي حكمت المدينة بعد اغتيال زوجها لم تقبل أن تكون خاضعة للآخرين فحوّلت مدينتها إلى إمبراطورية تحدّت روما وهيمنتها في المنطقة. حتى إنها سعت لهزيمتها فعجّل ذلك من نهايتها وحرقها وتدميرها عام 273 ت ش على يد قوات الإمبراطور الروماني أورليان (214-275 ت ش) الذي تمكّنت قواته من ملكتها وإحضارها أسيرة إلى روما حيث توفيت هناك عام 275 ت ش.
ومع أنّ الإمبراطور الروماني ديوقلطيان (284-305 ت ش) أمر بإعادة بناء المدينة إلّا أنّها لم تستعِد رونقها وازدهارها السابقَين إطلاقاً. تعود آثار المدينة المتبقية بمعظمها إلى فترة حكم زنوبيا التي عرفها العرب بأسماء مختلفة منها زينب والزباء، وهي نعوت في حقيقة الأمر (انظر الفصل الرابع «بلقيس: الملكة-الفاتحة» من مؤلّفنا «بلقيس: آلهة، ممالك، ملكات، أمازونيات، ألغاز». دمشق، بيروت 2020).
تعتمد معرفتنا عن تدمر وتاريخها في العهد الروماني على مؤلّفات الرومان والإغريق ومنهم على سبيل الذكر زوسيم وملالاس وثيوفانس وبروكوبيوس. أمّا معرفتنا من المصادر العربية عن المدينة وأهلها فتعود، دوماً وفق الكاتب، إلى حمزة الأصفهاني وأبو الفدا وابن الفقيه وابن أعثم الكوفي وصفي الدين والطبري والواقدي وياقوت الحموي.
في مؤلّفه المرجعيّ «تدمر بعد زنوبيا 273-750 م: إعادة تقويم تاريخية وآثارية» الذي صدر في بريطانيا (كتب Oxbow)، يذكر الكاتب والأكاديمي إمانويل إنتلياتا مختلف المصادر الأجنبية والعربية الأولية والثانوية التي استعان بها لكتابة تاريخ المدينة في مختلف الحقب حتى نهاية العهد الأموي في بلاد الشام. برفقة أكثر من سبعين مصوّراً، يحدّد الأستاذ المحاضر في مادة الآثار البيزنطية في جامعة إدنبرة البريطانية، هدف مؤلّفه: إنه اقتراح سرد لتاريخ المدينة خلال هذا العصر المجهول بدءاً من الانتفاضة التدمرية الثانية حتى نهاية الحكم الأموي (273–750)، فيما ضمّن سرده فترة الاحتلال الفارسي القصير لسوريا الذي امتدّ من عام 613 إلى عام 628 ت ش. أمّا ما يخصّ الفترة التالية من تاريخ المدينة، أي العباسية، فيقول: يبدو أن الحياة في المستوطنة استمرّت لكن بوتيرة منخفضة جداً لأنّ المراجع عن تلك الفترة قليلة للغاية.

تمثال إلهة اللات الذي دمّره عناصر من تنظيم «داعش»

يستطرد الكاتب في وصف عمله: «يتم استكشاف عدد من الموضوعات البحثية أو عناصر الأدلة المحدّدة التي تتوفر مواد كافية لاستعمالها واستنطاقها في فصول المؤلّف»، بدءاً من الفصل الأوّل الذي يحمل عنوان «التدمريون: محيط المدينة وملاحظات على منظومة الطرق ودلائل على الترحال والتجارة ومهن التدمريين». بيد أنّه ينهي ذلك باستنتاجات تتلخّص بأن مدينة تدمر، رغم أنها ظلّت منطقة حدودية في العصور القديمة المتأخّرة بعيداً عن مركز السلطة، إلّا أنّه من المؤكّد أنها لم تكن معزولة ونائية كما تميل المصادر المكتوبة إلى الادّعاء. ويتابع بأن الطرقات سمحت بنقل الأشخاص والبضائع عبر المنطقة، حيث تظهر آثار التوطّن البشري في المنطقة في القرى والمزارع المعزولة والأديرة والحصون ويدلّ انتشارها على نطاق واسع على الوظيفة العسكرية التي أدّتها تدمر في أواخر القرنين الثالث والرابع. وقد تحوّلت أحياناً إلى مستوطنات حيث استفاد أهلها من وجود أسواق تدمر لبيع سلعهم. ونظراً إلى كون المدينة مركزاً أسقفياً مبكراً، فإنّها مارست دور مركز تجميعي للمجتمعات المسيحية التي تعيش في المناطق المحيطة بها، فضلاً على كونها مركزاً لنشر المسيحية في الريف. مع ذلك فإنّ الجغرافيا المسيحية التدمرية لا تزال ضبابية بشكل خاص حيث لدينا علم عن ثلاثة أديرة في إقليم تدمر أحدها غير معروف موقعه. في الفصل الثاني «مشهد متغيّر» يتناول الكاتب تدمر بوصفها (polis, colonia, phrourion, medina) وكذلك حجم مناطق التوطّن ومداه وشبكة الطرق ومصادر المياه ونظم توفيرها والتغيرات الكبيرة في السكن المديني التي تشكل أحياء متخصّصة. كما يتوقّف عند التغيّرات الصغيرة في السكن المديني والتحوّل من بوليس إلى مدينة، ليختم الكاتب هذا القسم باستعادة الأحداث الدرامية التي وقعت في الفترة من 272 إلى 273، وما تلاها. لم يتم التخلّي حينها عن تدمر، بل شهدت تغيّراً في وظائفها فتحوّلت من محطّة قوافل إلى معقل على طول الحدود الشرقية وتقلّص حجمها إلى ما يقرب من نصفه الأصلي، لكنّها لم تفقد أهميتها. يسلّط الكاتب الضوء على وظائف تدمر المتنوّعة، حيث احتضنت مجتمعاً مدنياً كبيراً إضافة إلى دورها العسكري المكتسَب حديثاً.

نقش الملكة زنوبيا

فالمصادر المكتوبة ذات الصلة تشير إلى تدمر بوصفها مدينة في الفترة قيد المناقشة وتعترف ضمنياً بأهميتها بين المستوطنات الأخرى في سوريا. كما أظهر تحليل طوبوغرافي للمدينة أن تدمر العصرَين القديم والإسلامي المبكر كانت تميل إلى الحفاظ على شبكة الشوارع الرومانية الموجودة مسبقاً. لكن مع ذلك، ثمة أدلّة على حدوث تغييرات وظيفية في بعض المناطق الحضرية ما يعني أن مجتمعها ذاك كان حيوياً. تحت عنوان «المجتمع والسكن»، يعالج الكاتب في الفصل الثالث المجتمع التدمري في العصر القديم المتأخّر والعصر الإسلامي المبكر، متوقّفاً عند كيفيّة التغلب على قلّة المصادر. ينتقل بعدها إلى الحديث في طريقة السكن التدمرية التي تلت العصر الروماني وكونها مقياساً للتغيّر الاجتماعي في المدينة ويلخّص ما بيّنه في الفصل بالتفصيل بالقول: «يبدو العمار المحلّي في تدمر في المرحلة ما بعد الرومانية في تناقض صارخ ليس فقط مع النصب التذكارية للمنازل الرومانية لكن أيضاً مع ترف المباني السكنية الخاصة المعاصرة في مدن أخرى. هذا ما يشير إلى تحوّل جذريّ في تكوين مجتمع تدمر والذي ربما يكون قد خضع لتخفيض في عدد أعضاء النخبة الأرستقراطية المحلّية، لكن تصعب العودة إلى تاريخ بدء هذا التغيير الاجتماعي بسبب محدوديّة البيانات المتاحة، مع ذلك لا ينبغي استبعاد أن هذا بدأ في وقت مبكر من القرن الرابع. لا تساعد الأدلّة ذات الصلة في توضيح ما إذا كان هذا الحدث مفاجئاً أو تدريجياً، ولكن ربّما كان مرتبطاً بالخسائر الفادحة التي وقعت في 272- 273 ت ش. بعد هذا التاريخ، لم تعد تدمر محطّة قافلة ثرية كما كانت في العصر الروماني حيث أصبحت مدينة حصن. وبذلك تغيّرت الأولويات الرئيسة لسكانها فجأة ولم تعد جهودهم موجّهة لإرضاء سكان الإمبراطورية الغربية بمنتجات غريبة ومكلفة من الأراضي البعيدة، لكن لتلبية الاحتياجات العملية للحامية. في هذا السيناريو الجديد لم تقدّم تدمر سوى عدد قليل جداً من عوامل الجذب للنخب الأرستقراطية.

سور تدمر

بالبحث والتحليل، يحاول الفصل الرابع «التغييرات الدينية والإدارية في العصر القديم المتأخّر ومطلع العهد الإسلامي» تصوّر الحياة الدينية في تدمر اعتماداً على المصادر الأثرية والمكتوبة، ويلخّص استنتاجاته كالتالي: لا تتوافر معلومات كثيرة عن الحياة الدينية في القرنَين الرابع والخامس. إذ أن المصادر المكتوبة تخبرنا بأن المدينة ظلّت مركزاً أسقفياً وأن أساقفتها كانوا منخرطين في الخلافات الكريستولوجية في عصرهم، لكنّها لا تشي باحتمال استمرار وجود الوثنية أو أيّ مجتمعات دينية أخرى في المدينة التي تركت آثاراً. ويضيف الكاتب بأنّ تدمر قد شهدت طفرة حقيقية في بناء الكنائس، ويعزيه إلى الاستثمار الإمبراطوري، حيث يُعتقد أن نحو ثماني كنائس قد تمّ تجديدها أو بناؤها في هذه المرحلة. يشير إلى واحدة من هذه الكنائس وهي الرابعة (IV) والتي تُعتبر ذات مغزى بسبب حجمها في المقام الأول مقارنة بحجم الكنائس المعاصرة في المراكز المسيحية الكبرى الأخرى، مثل بازيليكا ب في الرصافة و«الكاتدرائيات» السورية الأخرى مثل كاتدرائية الأندرين وقلب لوزا ما يقود الكاتب إلى الاستنتاج بأنّ وجود كنيسة ذات حجم كبير يدلّ على قدرة الأسقفية على جذب الاستثمار حتى لمشروعات المباني الكبيرة، ويؤكّد بالمثل حيوية البناء في تدمر إبان فترة كانت فيها الكنائس هي المباني العامة الرئيسة التي سيتمّ إنجازها. إن وجود ما يشبه المنبر (bema) في الكنيسة نفسها يعدّ حدثاً غير عادي في وسط سوريا وقد يشير إلى ازدهار حوار متميّز في المنطقة مع أحد أهم مراكز المسيحية في ذلك الوقت، أي أنطاكية، دوماً وفق كلمات الكاتب.
الأدلة الأثرية لأمكنة العبادة في العصر الإسلامي المبكر تشير إلى الأهمية المحلّية المستمرة للمدينة بعد الاستيلاء الإسلامي عليها. فالمسجد الجامع في تدمر يعكس ضرورة دينية لمجتمع مسلم معزول. وقد أظهر التشابه مع المباني الأخرى في بلاد الشام وجوب تفسير تشييد المبنى في تدمر كجزء من عملية واسعة النطاق للتنمية العمرانية في عهد المروانيين. ولربما لم تكن أهمية تدمر في ذلك الوقت إدارية كما هو الحال للمراكز الأخرى التي وجد فيها مساجد جامعة، بل سياسية. في الواقع كانت المدينة مركز قبيلة بني كلب العربية الرائدة التي اشتهرت بدعمها للسلالة الأموية. أمّا البناء اللاحق للمسجد الأكثر تواضعاً لتلبية احتياجات عدد أقل من السكان مع التخلّي عن كنائس داخل جدار المدينة (intra muros) ما يوحي أن التقهقر الحقيقي في المدينة لم يجرِ إلا بعد العصر الأموي.

حدود إمبراطورية الملكة زنوبيا

يعالج الفصل الخامس «العسكر» وضع حامية تدمر ومعسكر ديوقليطيان ويلخّص الكاتب قوله هنا: «لقد عنى تمركز الفيلق الروماني المتأخر المسمّى (Legio I Illyricorum) تحوّلاً في الدور الرئيس لتدمر: من مدينة قوافل إلى معقل عسكري. تم الحفاظ على هذا الدور طوال العصور القديمة المتأخرة مع أنّ المصادر المكتوبة ذات الصلة تشير إلى أن سيادة السلم في القرن الخامس أدّت إلى تخفيض القوة العسكرية للمدينة. كانت المدينة في النصف الأول من القرن السادس قاعدة العمود الفقري للجيش الخاضع إلى سيطرة واحدة من ولاة فينيقيا (duces of phoenicia). وتساعد المصادر المكتوبة في تحديد دور المدينة المحوري في الدفاع عن الحدود الشرقية. ويمثّل معسكر ديوقلطيان بلا شك أحد أكثر المشاريع العسكرية طموحاً التي تم تحقيقها على طول الحدود الشرقية خلال فترة الحكم المسمّاة الرباعية (tetrarchy). يضيف الكاتب بأنّه بالرغم من أنّ بناء المعسكر قد تمّ في الغالب اعتماداً على مواد البناء المعاد استخدامها، فإنّ هذا النصب لا مثيل له في بانوراما العمارة العسكرية القديمة المتأخرة. لا شكّ، أنه قد نشأت حاجة إلى قوة عاملة كبيرة ومتخصّصة تحت قيادة قديرة وتمويل واسع النطاق لتطهير المنطقة من الهياكل الأثرية الموجودة مسبقاً، وشقّ طرق جديدة وإنشاء التلال اليدوية الفنية، ونقل المواد ذات الوزن الثقيل المعاد استخدامها في الهندسة المعمارية لبناء المباني الجديدة. يجب أن يُنظر إلى الانتهاء من هذا المجمَّع المذهل على أنه إنجاز في ذلك الوقت ويستحقّ حقاً الاحتفال به في نقش. في الوقت نفسه، ليس ثمة رأي موحّد بين أهل الاختصاص لدوافع تأسيس المجمَّع والنصب التذكاري لمعسكر ديوقلطيان وربما كان بهدف إثارة دهشة الزائرين العرضيين الراغبين بالتفاعل مع السلطة الرومانية ذلك أن سقوط تدمر عام 272 قد أثّر سلباً في التوازن السياسي الهشّ للمجتمعات الأعرابية المحلية. يتوقّف الكاتب عند «أسوار المدينة» في الفصل السادس، إذ يعالج بعض المعضلات المتعلّقة بالآثار المتبقية، ويصفها مستفيضاً في شرح تقنية البناء وأسوار المدينة في مختلف الحقب العتيقة، فقد «كانت دائرة بالميرا الحضرية أحد الأسباب الرئيسة وراء بقاء المستوطنة طوال فترة العصور القديمة والمتأخرة المليئة بالأزمات». ولأن المصادر المكتوبة غير موثوقة تماماً، ونظراً إلى وجود خلافات بين أهل الاختصاص بخصوص التسلسل الزمني لهذه الفترة، يعتقد الكاتب بأن التدقيق في البقايا الأثرية يسمح باستنتاجات أكثر صلابة حوله. هنا يبدو أنه من المعقول الاستنتاج بأنّ المرحلة الأولى من الجدار قد شيّدت مع أبراج دعامة على مراحل مختلفة خلال القرن الثالث، ولا يبدو أنّ بناءه قد حدث على عجل، إذ يشير إلى الاهتمام الواضح في تسوية مساره والحرص على وضع كتله بعناية. في وقت لاحق، تم ترميم الجدار وتثبيته بإضافة أبراج على شكل حرف U.

تدمر بعد تدميرها من قبل تنظيم «داعش»

يوغل الكاتب في توصيف تفاصيل الجدار، قائلاً إن فحصاً دقيقاً للتكنيك المعتمد لهذه الهياكل قد ثبَّت صحة التسلسل الزمني. وهنا لا يبدو أن إعادة بناء جستنيان لجدار المدينة قد ترك آثاراً مرئية على الأرض. بقدر ما يتعلق الأمر بتاريخ المدينة المتأخر، فهناك قليل من المواد الأثرية المتبقية للتكهّن، مع أن الترميمات اللاحقة على طول مجرى الأسوار كلّها ستعكس ضرورة الحفاظ على جدار المدينة وظيفياً لفترة طويلة، إلّا أنّه من الصعب للغاية تحديد التواريخ الدقيقة. ومن خلال الاستعانة لمصادر مكتوبة عديدة، يتوصّل الكاتب إلى أن تدمر ظلت مكاناً مهمّاً محصناً وملجأ حتى منتصف القرن الثامن عندما قيل إن مروان بن محمد أمر بهدم سور المدينة. في الفصل السابع، يصل الباحث إلى «تدمر بعد زنوبيا» حيث يتحدّث عن التدمير الذي طال المدينة عام 273 ت ش، وينتقل إلى وصفها في القرون الرابع والخامس والسادس كلّ على حدة، إضافة إلى العقود الثلاثة الأولى من القرن السابع، ويلي ذلك الحديث عنها في المرحلة الإسلامية المبكرة ومن ثم عن المدينة عقب نهاية العصر الأموي. يورد في مؤلّفه أن «نهاية الأسرة الأموية تزامنت مع انقلاب في حظوظ المدينة وربما وجب البحث عن سبب ذلك في نتائج انهيار قوّة بني كلب المتحالفين مع الأمويين والذين تعرضوا أيضاً لمذابح العباسيين. وفي نهاية شهر أيلول عام 750 اندلع تمرّد بقيادة أبو ورد الكلابي وأبو محمد السفياني مؤيد للأمويين ضد العباسيين وشارك فيه كلبيي تدمر، لكن قضي عليه على يد عبد الله بن علي في معركة اندلعت قرب قنسرين. في أواخر تموز عام 751 قُتل أبو الورد الكلبي مع خمسمئة من أتباعه في حين تمكّن أبو محمد السفياني من الفرار إلى تدمر حيث قاوم هناك هجوم بسام بن إبراهيم الذي أرسله عبد الله بن علي ثم انتقل إلى البادية»، ويستنتج في النهاية بأن نقل العاصمة من دمشق إلى بغداد وما تلى ذلك من انتقال اهتمام الخلافة من سوريا إلى العراق قد يكون سبباً آخر وراء انهيار المدينة.
حوّلت الملكة زنوبيا المدينة إلى إمبراطورية تحدّت روما وهيمنتها في المنطقة


لا يوجد دليل يُذكر يساعد على إلقاء الضوء على فترة ما بعد الأموية في المدينة. الأسقف الأخير المعروف من تدمر هو حنا الثالث من دير مار حنانيا كرسه مخائيل في عام 818. ويبدو أن وسط المدينة قد هجر بالفعل في منتصف القرن التاسع، لكن ثمة شواهد على أنشطة بسيطة في بعض الأمكنة مثل مجمَّع/معسكر ديوقلطيان. وبحلول نهاية القرن العاشر يبدو أن المستوطنة قد تقلّصت بالفعل إلى قُدس أو مقام بِل.
ثمّة عدد من النقوش التي يرجع تاريخها إلى 1132-1133، والتي تشير إلى تحول هذا المجمع المعسكر إلى حصن ومن ثم تحويل المقام إلى مسجد. أما قلعة بني معن المطلة على المدينة من ناحية الشمال فقد يعود زمن تشييدها إلى القرن الثالث عشر حيث شهدت إضافات هيكلية مهمة بما في ذلك بوابة جديدة، واستمر ذلك حتى احتلال فخر الدين المدينة في القرن 16/17. هنا تجدر الإشارة إلى أهم آثار المدينة قبل سقوطها لقطعان إبراهيم البدري (أبو بكر البغدادي) المنتحر ودمارها: الشارع المستقيم المحفوف بالأعمدة ويمتد طوله إلى كيلومترات عديدة، والمسرح الأثري، والأغورا، وقوس هادريان، ومعبد بعلشمين، ووادي القبور، ومدفن زنوبيا، والتيترابيل، وقلعة بني معن، ونبع أفقى، وسبيل الحوريات، ومقر مجلس الشيوخ، والحمامات، ومعسكر ديوقلطيان، والسور، ومعبد بل.



تدمر في العهد القديم؟
ثمة ادّعاء بأن سفر الملوك الأوّل 18:9 يذكر تدمر حرفياً، لكن النص العبري الأصلي بعنوان «الكتاب العبري الشتوتغارتي» (Biblia Hebraica Stuttgartensia) الذي يعدّ النسخة القياسية المعتمدة علمياً (وهي طبق الأصل عن أقدم نسخة من «العهد القديم» المسماة اللينينغرادية نسبة إلى مدينة لينينغراد المحفوظ فيها وتعود إلى عام 1009 ت ش)، يقول حرفياً «وءت تمر». المثير للعجب في هذا المقام أن «العهد القديم العبري: ترجمة بين السطور» الصادر عن «الجامعة الأنطونية» عام 2007 يورد النص ذا العلاقة كالتالي «وءت تدمر» ويضع الترجمة (بين السطور) على نحو «وتدمر»، لكن في الترجمة الجانبية في الهامش يضع بدلاً من ذلك «وتامار، [تمر] من دون تحريك» وهذا الرسم يتكرّر في نسخة «الكتاب المقدس» الصادرة عن «دار الكتاب المقدس» في الشرق الأوسط.