القاهرة | مثقّفون في السجون، وآخرون في المنافي المتعدّدة، وفريق ثالث يلوذ بالصمت خوفاً من كلا المصيرين. الثقافة المصرية باختصار تحت الحصار، أو نحو مزيد من الحصار السلطوي. في مصر كل شيء في خدمة الأمن، لا صوت يعلو على صوت الأمن. لذا يمكن أن يُطلق على هذا العام عام «الأمن الثقافي». أقلّه ما يتعلّق بالثقافة الرسمية التي يمكن تلخيص مؤتمراتها وندواتها بموضوعات محدّدة وغائمة مثل حروب الجيل الرابع، وبناء الإنسان المصري، والحرب على الإرهاب. وهي عناوين فضفاضة، لا معنى لها تقريباً، ولا يحضرها أحد باستثناء موظّفي وزارة الثقافة الذين يملؤون القاعات وقت الندوات. ما ينطبق على الندوات ينطبق على إصدارات المؤسسة الرسمية. «هيئة الكتاب» التي ارتفعت أسعار كتبها بما يقارب أسعار دور النشر الخاصة، بل يتجاوزها أحياناً، عانت من قلّة العناوين الجيدة، وسوء إخراج الكتاب ونوعية الورق المستخدمة. بنظرة على عناوين هذه الإصدارات، يمكن ملاحظة تفوّق نسبة الكتب التي تتناول هوية مصر أو بناء الإنسان.
وقّعت إيمان مرسال كتابها «في أثر عنايات الزيات» في القاهرة أخيراً

على صعيد الثقافة الأمنية، لن يكون بإمكانك إرسال كتاب إلى صديق خارج مصر عبر البريد إلا بعد موافقة جهاز الرقابة، ولن يصبح بإمكانك عقد ندوة إلا بعد المرور على الجهات الأمنية، ولن تستطيع المشاركة في معرض الكتاب أيضاً. لن تشارك مكتبة تنمية في الدورة القادمة للمعرض بسبب الرفض الأمني، وهو ما كشف عنه بعض العاملين في المكتبة التي يقضي صاحبها خالد لطفي خمس سنوات من عمره فى السجن بسبب توزيع ونشر طبعة مصرية من كتاب «الملاك» الذي يتهم أشرف مروان زوج ابنة الرئيس الراحل عبد الناصر بتسريب موعد حرب أكتوبر لإسرائيل، فيما رفضت محكمة النقض تخفيف الحكم بل أيّدته في نهاية العام. خالد لطفي الذي كان قد حاز في أيار (مايو) الماضي «جائزة فولتير لحرية النشر» التي يمنحها «اتحاد الناشرين الدولي»، لم يتسلّم الجائزة بالطبع في الاحتفال الذي أقيم على هامش «معرض سيول الدولي للكتاب» في كوريا الجنوبية، ولكنه أرسل رسالة قال فيها: «منذ ما يقارب العامين وحياتي وحياة أسرتي وكل من بجواري وكل من أحبني متوقفة من دون سبب. أودّ أن ينتهي ذلك الأمر. أريد أن أرى تنمية وبناتي الصغيرات يكبرن معاً في الوقت نفسه. أريد أن أخرج من هنا».
بالتأكيد، هناك عشرات الحكايات في الكواليس عن مصادرات لكتب، لكن أصحابها لا يعلنون عن الأمر، باعتبار أن ذلك يبقى أخفّ ضرراً من السجن. على سبيل المثال، هناك رواية «بلا وطن» للمستشارة نهى الزيني التي تعرضت لحملة صحافية، اختفت بعدها الرواية من كل المكتبات وسط صمت تام. لم يقتصر الأمر على تحويل الثقافة إلى «ضرورة أمنية» متوهّمة بالطبع لضبط المجتمع، ولكن تحوّلت أيضاً إلى سلعة، حيث تقدمت إحدى عضوات البرلمان بطلب لمناقشة هدم مسرح البالون والسيرك القومي، وتحويل مساحة الأرض التي يحتلها المبنى المطل على نيل القاهرة إلى عمارات سكنية ومشاريع تجارية. تحرّك المثقفين وتوقيعهم عدداً من البيانات لإدانة القرار حالا دون حدوث هذه الكارثة، إلا أن ثمة شعوراً بأن التراجع عن المشروع مؤقت، وسنتفاجأ يوماً بهدم المبنى.
ربما كانت سلسلة الغيابات هي أقسى ما في العام مع رحيل شيخ المترجمين العرب أبو بكر يوسف الذي ترجم تشيخوف، كما غاب بشير السباعي صاحب أكثر من 70 ترجمة من الفرنسية، وصاحب اهتمام خاص بالتأريخ للحركة السوريالية المصرية. رحل المفكّر والمناضل السياسي إبراهيم فتحي الذي قدّم أيضاً عشرات الدراسات النقدية والترجمات من الإنكليزية، وفارقنا اثنان من أصحاب الإسهامات البارزة في الحياة الثقافيّة والسياسية المصريّة هما هاني شكر الله ومصطفى اللباد. كذلك غاب أحد أبرز المخرجين المسرحيين في جيل السبعينيات محسن حلمي، وغاب أيضاً عالم اللغة محمود فهمي حجازي، وشهدي نجيب سرور. كما أعلن الشاعر رفعت سلام فى نهاية العام عن إصابته بسرطان الرئة، وبدأت حملة لعلاجه، انتهت بتبرّع رجل الأعمال نجيب ساويرس بتكاليف العلاج بعد عجز وزارة الثقافة و«جامعة القاهرة» و«اتحاد الكتاب» عن تدبير التكاليف اللازمة، رغم تبرّع أمير الشارقة بمبلغ 20 مليون دولار لمشروع علاج المبدعين، ولكن لا أحد يعرف أين ذهبت هذه الأموال.
لن يكون بإمكانك إرسال كتاب إلى صديق خارج البلاد إلا بعد موافقة جهاز الرقابة


وسط كل هذه الظروف والإحباطات، ثمّة ضوء في نهاية هذا النفق، يأتي هذه المرة من مشروعات فردية بعيداً عن أي مؤسسة. احتفلت المؤسسات المدنية بذكرى مرور 100 عام على ثورة 19، الثورة الشعبية التي شكّلت الوعي المصري الحديث والتي لا يزال تأثيرها فنياً وإبداعياً يُلقي بالكثير من ظلاله اليوم، إذ صدر ما يقرب من 30 كتاباً عنها، من بينها مذكّرات النحاس الباس بتحقيق عماد أبو غازي، ومذكرات مللنر بترجمة وتقديم منى أنيس، وكتاب عن ثورة 19 في الوثائق الأميركية للدكتور محمد أبو الغار... كل ذلك مقابل احتفال الدولة الذي جاء باهتاً وخجولاً وخصوصاً أن الكثير من تفاصيل ثورة 19 تستعيد ما جرى في 25 يناير، وتذكر به، وهو الحدث الذي تسعى كل مؤسسات الدولة لمحوه تماماً.
لا يزال هناك مكان للإبداع المختلف، وخصوصاً لناحية الإصدارات التي شهدتها السنة الحاليّة: أصدر إبراهيم عبد المجيد روايته الجديدة «السايكلوب»، وإيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات»، وأحمد خير الدين «بعلم الوصول»، وأحمد الفخراني «بياصة الشوام»، وأحمد عبد اللطيف «سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج»، وطارق إمام «طعم النوم». ووفق أرقام الإيداع في «دار الكتب» منذ بداية عام 2019 حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) منه، فقد بلغت أعداد الكتب الصادرة في مصر ما يقارب الـ 18 ألف كتاب. لكن اللافت كان قلّة أعداد دواوين الشعر الذي لا يحبّه الناشرون، وربما أيضاً لأنه قد أصبح شحيحاً ونادراً، لذا علينا أن نصرخ مع شكسبير فى رائعته «يوليوس قيصر»: احذروا هذا الرجل، إنه لا يحب الشعر.