قصّة حب بين عمارتين في مدينة غير معروفة. لكن هذه قصّة قد تجري في أي مكان تتجاور فيه العمارات التقليديّة والعمارات الحديثة. العمارتان الحديثة والتقليديّة هما بطلتا القصّة المصوّرة للمهندس والأكاديمي عصام شمالي بعنوان «كتيّب الأشياء المحسوسة ــ قصّة حب عمرانيّة». قد يبدو هذان العنصران بداية لقصّة مألوفة عن هجمة الإسمنت على العمارات التقليديّة. وهو مشهد مكرّر في بيروت التي يغيب عنها أيّ تخطيط مديني. لكنّ الكتاب الذي صدر أخيراً بالإنكليزية، هو حصيلة جهد بحثي أراد شمالي أن يخرجه ضمن إطار القصص المصوّرة لتبسيط العلاقة بين التقليدي والحديث، وبعض المفاهيم العمرانيّة وفلسفتها بغاية الوصول إلى جميع الناس إلى جانب المتخصصين والمعماريين. تجربة جديدة، تلت مؤلّفه الأوّل سنة 2018 بعنوان Spacing Forth the Architecture Selfscape، الذي اقتصر على الجانب النظري في فلسفة العمارة.

من خلال رسومات أوليفر هاشم، نتعرّف إلى بطلين آخرين، يظهران على هامش العلاقة التي يقيمها المبنيان، هما العمارة المهدّمة وشبكة الخطوط المتوازية المستقبليّة. ضمن 11 فصلاً، نتابع قصّة بحوارات خياليّة، إلّا أنها تخضع أساساً لإطار نظري ينطلق منه شمالي مقسّماً فصول القصّة استناداً إليه. يحمل كل فصل عنواناً يقوم على مفهوم محدّد مثل الانسجام والفوضى، وركائز العمارة الفيتروفيّة وغيرها من المفاهيم التي يقترحها شمالي كمراجع وركائز للمعماريين في عملهم. لا يترك الأمر كلّه للخيال، تبدو القصّة كتطبيق مصوّر لهذه النظريّات، أو أنّها مجرّد قالب لشرح الأفكار العلميّة والهندسية حول الوقت والفضاء. يلتزم شمالي بوجهة نظر العمارات، أو المادّة، انطلاقاً من نظريّة المفكّر الأميركي غراهام هارمان عن الأشياء، التي تناقض المركزيّة البشريّة لدى كانط. تقوم نظرّية هارمان على استقلاليّة الأشياء والعناصر غير البشريّة، خصوصاً في تلقي الزمن والفضاء. من هنا، يخلو الكتاب من أيّ كائن حيّ، إلا الأشجار التي تظهر في بعض الصفحات. تأخذ العمارات سمات بشريّة تتجسّد في فعل الحبّ، وحاجتها إلى مساحتها الخاصّة، أو إلى التفلّت من خطوطها الهندسيّة. سنرى ما تراه، ونقرأ حواراتها، كل المناظير هي مناظيرها وفق الاسكتشات التي تبقى ملتصقة بالرسم الهندسي ولا تحيد عنه. عموماً، تمثّل العمارات التقليديّة، ما هو أبعد من هيكلها وحدودها. تمتدّ إلى المكان الذي عمّرت فيه وتحمل ملامحه. وفي الكتاب، فإن العمارة التقليدية هي عمارة من الحجر والقرميد كالعمارات اللبنانية. تبدأ القصّة بعلاقة عاطفيّة، لكن الحوارات تتوقّف عند سمات هذه العمارات وعناصرها العمرانيّة. ستدعو العمارة التقليدية تلك الحديثة إلى التقاط أنفاسها ومحاولة الاتزان بسبب طولها الشاهق مقارنة بها. يأتي التوصيف العمراني الدقيق لهذه الأبنية على لسانها هي، حيث تتذمّر العمارة الحديثة من خطوطها المجرّدة الصارمة، التي تحول دون اندماجها مع العناصر الأخرى كما تسعى.



انقر على الصورة لتكبيرها

يقدّم شمالي براديغم ماكدونالدز الذي تتجاوز فيه طقوس مطاعم الوجبات السريعة أميركا فحسب لتصل إلى كل أوجه الحياة خارج أميركا. النقد الذي يقدّمه شمالي لهذه الهجمة العمرانيّة الجاهزة والمستنسخة هو نقد لغياب الخيال. هو استعارة عن السلطة والسيطرة على المشهد بأكمله، وعلى العمارات نفسها. هنا تشبّه القصّة حصار الأبنية التقليديّة ببناء البانوبتيكون، السجن الدائري الذي صمّمه المنظّر الإنكليزي جيريمي بينثام عام 1785. يتوسّط باحة السجن برج يتيح للحارس مراقبة كلّ الزنازين. إلا أنه يضع البيت التقليدي في الوسط، في إحالة إلى المشهد المديني الذي تتمّ فيه محاصرة البيوت التقليدية ومراقبتها من النوافذ الكثيرة المرتفعة. ضمن هذا الإطار السردي، ثمّة تعريفات ومراجع عمرانية وفلسفيّة عدّة، تعدّ ركائز أساسية لفهم العلاقات التي تقوم عليها البيئة العمرانية. أسئلة كثيرة في الكتاب، إلا أن شمالي يبني إجاباتها بوضوح، مظهّراً ارتباطنا بالمحيط الذي نعيش فيه: هل تبقى الأشياء على حالها مع مرور الوقت؟ بعد تجاذب وتنافر بينهما، يسعى المبنيان في الفصول اللاحقة لإيجاد علاقة متناغمة تحوي اختلافهما، علاقة تشكّل في الوقت نفسه الفضاء الذي يحيط بنا.

انقر على الصورة لتكبيرها