لا يعلم كثيرون أن جيرار خاتشريان من جماعة دفن الشك بحضور المسرح اللبناني في شريط من الإقدام على منصات المدينة. إنه أحد رجال المسرح، حين لم يستطع المسرح إلّا أن يلعب في مساحة ضيقة كزقاق. ثم حين راح المسرح يعاند جاذبيات المشقات، بعدما تمت طفولته. إتمام الطفولة بإتمام الجمهور. جيرار واحد ممن لعبوا أدوارهم بإتمام الجمهور في قاعات المسرح. لصاحب السنَّين البارزَين بمقدم الفم دور كثيف في فتح دروب المسرح بعيداً من طعنات الجراحين الوهميين. مناضل يوزع الحلوى على المسرح وأبطال المسرح، بدون أن يذوق حلواه الموزعة. لأن الرجل مصرفي، لم ينزل عالم المصارف من قصص النزول بالمظلات. صاحب شهادة عليا بالشؤون المصرفية، يحتفل بجريان دم المسرح في شرايين المسرح، حين راح يقلم عطله لكي يبيع تذاكر المسرح للعابرين في الشوارع والأصدقاء والزملاء والرفاق والأهل، لم يرَ الجمهور جيرار خاتشريان على أراجيح المسرح، لأن الرجل لم يأكل من حلواه الموزعة ولم يُقفر على المنصات وهو يدلل على ذكورة الواجب، لأن جيرار خاتشريان اعتبر أن من الواجب أن يخدم المسرح كمصرفي يعمل بالمسرح، لا كبائع قمصان. هكذا، بقي يصدق على بيانات المسرح، بعيداً من الضحك.لولا جيرار خاتشريان لمات العديد من المسرحيين من زيادة السكر أو من زيادة الملح في فواتير مسرحهم. لا أنس أمام الفاتورة. كل فاتورة استحقاق. لأن الفاتورة وحدها لا تكذب. وإلا تحوّل المسرح إلى جثمان، وإلا تحول المسرح إلى جثمان قتيل. جيرار مجرة توضيب. لم يعرفه الأصدقاء بالمسرح إلا كمجرة لا تهدد كوكب الأرض بالاصطدام. الفاتورة رصاص خاتشريان. الفاتورة عنوان المنزل والمؤسسة. الفاتورة راية وضعها الرجل بلطف أو بقوة أمام المسرحيين، لكي يحمي أعمالهم، من محترف بيروت للمسرح وصولاً إلى جلال خوري وأسامة العارف ونضال الأشقر وبعض من وجدوا فواتير خريج الاقتصاد بالأسود والأبيض بزمن الألوان. لم ينسطل الأرمني، من شغل منصب مدير في بعض المصارف في أيام عز المصارف، لا بأيام سلبطة المصارف على الناس، لن ينسطل الأرمني لا بضجيج المسرحيين ولا بضحكهم. بقي القادر على اختيار الوقت المناسب للقطة الاقتصادية في اللقطة المسرحية. كل من عمل مع خاتشريان لم يجد دم مسرحه على أكمامه، لأنه صاحب حضور مؤمن، صاحب يد مؤمنة بقواها على إزالة دمامل المسرح من لحم المسرح.
اذهبوا إلى جيرار، اسألوا جيرار . لأن من يذهب إلى جيرار لن يعرف معنى الندم. هو من تعامل مع المسرحيين كما تتعامل ممرضة مع مريض في مستوصف لا في مستشفى فاخر. الفارز المسرحي لم يعانِ من شدة، لأنه لم يعلّم نفسه التعب. لم يعلّم نفسه الحركات السريعة ولا الحركات الهشة. معيد الأشياء، كل الأشياء، إلى أول السطر، رجل يفهم القصص باللمس. رجل قاس عند البعض، رجل عادل عند البعض. المسرح مطبخه، المصرف صالونه. بداية النهار للمصرف، بداية المساء للمسرح. هكذا: ثبت أقدامه بالحياة وسط الزوابع وهو يحفر للزوابع أنفاقه، حتى تمر العواصف بالأنفاق. لم يضيع الأناقة الخاصة به وهو يصقل بيديه العاريتين كاسات المسرحيين وأواني المصرفيين.
بقي خاتشريان بإيقاع الحلال على الدوام. يتذكر لا لكي يوسع الألم، تذكر لكي يتذكر، لكي لا يبقى تاريخ المسرح سكراناً أمام الروايات الأشبه بأغاني شادية وفريد الأطرش. ثم، لم يلبث أن قعد على قبعة المسرح، بعدما وضع القبعة على رأسه على مدى عشرات السنين. استراح خاتشريان باللغة، اللغة الأرمنية، بدون أن يعتبر العربية ماركة مسجلة للعرب. لأن الرجل عربي. لم يضع جورباً من النايلون على وجهه، حين اقتحم مع جلال خوري وأسامة العارف مقر المؤسسة الدولية للمسرح في باريس (Iti)، وهم يدعون إلى عدم اعتبار الفلسطينيين سيارات مستعملة والإسرائيليين سيارات مصانع حديثة، لا تنفك تغمز المكبوتين على الأرصفة، ممن اعتبر أن الفلسطينيين رجال بادية لا مساحة لهم بالمؤسسة وأن الإسرائيليين حضر المؤسسة، كرسيهم محفوظ بانتخابات وبدون انتخابات. لم ينكسر لسانه وهو يطالب الفلسطينيين بمقعدهم. لم ينكسر لسانه العربي وهو يتكلم بالأرمنية في هذه المناسبة وفي تلك. لم يتكلم كصاحب سمو وهو يروي أمامي ذكريات المسرح الأولى في واحد من مكاتب مشروع النهوض بالمكتبة الوطنية، حيث أدار المشروع وهو يحاول أن يلطف العُجمات في مؤسسة دارت وصاية وزارة الثقافة عليها، بدون سؤال عن الأسباب. هناك لم يجد وزيراً حليفاً، لأنّ الوزراء ميالون إلى النمامين لا إلى أصحاب الفضيلة.
تعامل مع المسرحيين كما تتعامل ممرضة مع مريض

افتقد في الوزارات أعز ما يطلب: سكن البيت لا سكن الديوان. يفكر الرجل بالأرمنية ويعبر بالعربية، ما رفع أمامه خشية المسؤولين لأن الأخيرين لا يهنؤون أمام أصحاب الكلام الطازج والفكر المباشر. صلف، وجده الوزراء. حين راح كثيرون ممن دعسوا في خطواته المستعملة لا يلتفتون إليه إلا بمكر، لا يلتفتون إلا التفاتات ماكرة. سكنتهم فكرة إطاحته من شقوق مشروع دل الآخرين إليه، حين وجد أن مشروع النهوض بالمكتبة على شفير الإفلاس. انصهرت عظامه بأعمدة طوابق المشروع في مبنى السوق الحرة في مرفأ بيروت. حين أدرك أن عرس المكتبة ومشروع المكتبة عند النهايات، أخافه الأثر الطالع من النهاية، لأن من رفع المشروع بأصابعه المفتوحة، لم يلبث أن وجد أن ثمة من يصادر المشروع بالأصابع المعقوفة والسلوك المعقوف والسياسات المعقوفة. انتهازيون وانتهازيات من أعيرة لا ترتد إلى الخلف إلا لكي تندفع إلى الأمام. أحرق بعض العاملين في المكتبة مشروعه بالتواطؤ السافر والخفي، حين أخرجوا مؤامرتهم من بطونهم كما تخرج الكنغر ولدها من جيب بطنها. وإذ شاهد الصعاليك من الذكور والإناث يصادرون المشروع على عمى المسؤولين. إذ شاهدهم يصادرون مشروعه، مات جزء منه. مات جزء بمرض كريمته. حول مرض ابنته حياته إلى حياة بلا أمجاد. مات جزء أخير، بعد وقوع المسرح بالعطل إثر استنفاده قهقهاته القديمة. كل الافتراضات أضحت واقعاً، حين شغل من جاء بهم إلى المكتبة، حين شغل هؤلاء أمواسهم بلحمه وجلده. سلخوه كما تسلخ معزاة. لم يستطع الرجل مذاك أن يعيد السعادة إلى وجهه، حتى بوضع المكياجات الخفيفة على وجهه. هذا زمن السكرتيرات والمستشارات، هذا زمن الغلو ، قال ما قال ومات (ثمة الكثير مما يروى حول إقصاء خاتشريان من رأس مشروع النهوض بالمكتبة الوطنية، بعدما نقل المشروع إلى الصنائع). مكتبة في مساحة لا تحتاج عشرها، وسط لا مشروع. غياب المشروع من غياب المنهجية ووقوع المشروع في تمارين الهواة، من يظنون أن الكلام المنمق والكلام بالعربية المذوق ببعض الفرنسية رغوة الحياة الدنيا. مات جيرار خاتشريان، حين أبلغ بأن لا مطرح له بمطرحه. لا في باريس أو جنيف. نظر إلى المصائد، نظر قبل أن يموت، دخل بالمصائد حتى لا يتعثر بالجثث. مرحلته الأخيرة، مرحلة اجترار السكاكين توجه إلى من لم ينسَ شؤونه لا العكس.