كأنه، بشموخه المهتاج وفوضى ملابسه، خارج للتوّ من نكبة زلزالية. عزرا باوند، شاعر «الأناشيد» الهائل، باندفاعه البدائي العاري، وصرخته الفالقة للزمن، وامتداده المطاول لقامات الآلهة الإغريقية. عزرا باوند، البهيم الذي اجترح رؤيا أخرى للفردوس، والرجيم الذي انجرف ذات ليل في وهدة ممالأة الفاشية فآل به الأمر إلى الزجّ به من طرف أميركا المنتصرة في مشفى عقلي، وعزرا باوند ابن هوميروس المبحر في أعالي بحار الذاكرة، والمتوغّل بروحه الوثنية في غابات الرموز والأساطير والعوالم الصينية والمتاهات الاقتصادية والفراديس القديمة بنفس القلب المشتعل الذي كتب به هذه الوصية الذهبية: «ما تحبه حقاً يبقى وما عداه حثالة/ ما تحبه حقاً لن ينهب منك/ ما تحبه حقاً هو ميراثك الأكيد...».
تقديم وترجمة محمد الشركي *

ثم هبطنا إلى المركب،
وضعنا الوتد على مكاسر الموج، مباشرة فوق البحر الإلهي،
ورفعنا الصاري والشراع فوق تلك السفينة السوداء،
حملنا الأغنام، وكذلك أنفسنا
مثقلين بالدموع، ومن الخلف
دفعتنا الرياح تحت الشراع المنتفخ
الذي نسجته سيرسي، الإلهة المغرمة.
وبعد أن جلسنا وسط المركب ذي الدفة المحصورة بالريح،
والشراع منتفخ، أبحرنا إلى أن شارف النهار على الرحيل،
آذنت الشمس بالمغيب، وخيّمت الظلال على أرجاء المحيط،
وصلنا إلى تخوم الأغوار الكبرى،
بلد الكيميريين، شعب تلك المدن
المغطاة بضباب كثيف لا تخترقه
الشمس الوهّاجة أبداً
[..]
وبعد انحسار المحيط، وصلنا أخيراً إلى المكان
الذي أشارت إليه سيرسي،
هناك تمت الشعائر، رفقة بيريميد وأوريلوك،
استللت السيف من خصري
وحفرت الحفرة الصغيرة المربعة بطول ذراع؛
سكبنا الخمور لكل واحد من الموتى،
بدأنا بنبيذ العسل، وأعقبناه بخمرة معتدلة، وبالماء المخلوط بالدقيق الأبيض.
ثم تلوت أدعية عديدة لتلك الرؤوس المعطوبة الراحلة؛
وكما نفعل في إيثاكا، ضحّينا بأجود الثيران العقيمة،
جمعنا القرابين فوق المحرقة،
وقدّمنا حملاً لتيرزياس بمفرده، ودابة مجلجلة.
سال الدم القاتم في الحفرة،
فخرجت الأرواح من مراصدها، أرواح فقدى جثمانيين، وعقيلات وأطفال وشيوخ برح بهم الألم؛
أرواح مبلّلة بدموع قريبة العهد، فتيات مرهفات،
جمهرة من الرجال المثخنين ببرونز الرماح،
جثث معارك لا تزال تحمل أسلحتها المضرجة بالدم،
تحلق حولي ذلك الحشد؛ وتعالى الصراخ،
امتقعت، وطالبت رجالي بالمزيد من الأضاحي،
[..]
لكن في البداية جاء ألبينور، صديقنا ألبينور،
الذي لم يدفن بعد، وبقي ممدّداً على البطحاء،
كانت أعضاؤه قد ظلت تحت سقف سيرسي،
دونما بكاء أو قبر، لأن مهامّ أخرى كانت أكثر استعجالاً.
كان حقيقاً بالرثاء. فهتفت بهذه الكلمات العجلى:
«يا ألبينور، كيف وصلت حتى هذا الساحل المعتم؟
هل جئته راجلاً فسبقت طاقم السفينة؟»
فرد بصوت جهوري:
«القدر وغزارة الخمور. كنت نائماً عند سيرسي، في ركن النار.
وحين كنت أهبط السلم الطويل دون احتراس
سقطت على دعامة المبنى،
دقّ عنقي، وفاضت روحي.
لكن أنت، أيها الملك المنان، لا تنسني، دون بكاء أو جنازة،
اجمع أسلحتي، وشيّد قبراً على الساحل الرملي، واكتب:
«رجل تعيس اسمه سيأتي»
واغرز المجداف الذي كنت أحرّكه بين رفاقي».
ثم جاء آنتيكلي فنحّيته، وأعقبه تيرزياس ابن طيبة
ممسكاً بعصاه الذهبية، فتعرّف إليّ وبادرني:
«مرّة أخرى؟ لماذا؟ أنت المولود بطالع سيّئ،
ترى الموتى المحرومين من الشمس وهذه المنطقة العديمة البهجة؟
تنحّ عن الحفرة، ودعني إذن أشرب الدم
وأتنبأ».
تراجعت،
وهو، بعد أن تقوّى بذلك الدم، قال: «سيعود
عوليس رغم نپتون الحقود، فوق البحار القائمة،
وسيفقد كل رفاقه».
[...]
* شاعر ومترجم مغربي/ الرباط.