كان ايتوري سكولا «مخرجاً عضوياً» على القياس الغرامشي، لا مخرجاً عادياً. وعلى عكس كثيرين من صناع السينما الإيطالية الكبار من أصحاب «الحساسية اليسارية»، لم يهاجر بأفلامه إلى أميركا، كبرتولوتشي وكوبولا، أو تورناتوري، وإن كان ذلك لا يعيب كثيراً المخرجين الذين حملوا أنفسهم على تلك الهجرة. لكن سكولا من طينة بازوليني في السياسة، وإن كان في السينما مزيجاً فريداً من مجموعة مخرجين إيطاليين لا يمكن الحديث عن واحد منهم من دون الحديث عن الآخر، رغم الاعتراف بوجود سحنة استثنائية تميّز أعمال كل واحدٍ منهم. وكما في فرنسا، في إيطاليا، الحديث عن «موجة جديدة» في السينما، قد يقود في نهايته إلى البحث عن هوية فلسفية للمخرجين، فإن كان غوادر (مثلاً) نسوياً كسيمون دو بوفوار، أو برتولوتشي فوكوياً يقيم وزناً لتأثير السلطة والذات والمعرفة، فإن سكولا كان غرامشياً قطعاً، وليس شريطه «يوم استثنائي»، إلا تجسيداً سينمائياً فاتناً لرسائل أنطونيو غرامشي من سجنه في تورينو شمال إيطاليا.
فكك مسارات المجتمع الإيطالي في العهد الرأسمالي
في السينما، لا يحب سكولا البهرجة. ربما أشهر أفلامه، مع مارشيللو ماستروياني وصوفيا لورين هو بالفعل «يوم استثنائي» (1977) الذي يتحدث فيه عن زيارة الزعيم النازي أدولف هتلر إلى روما. صحيح أنه حرر الكاميرا من الضوابط التقليدية، واستعان بمشاهد حقيقية من الزيارة، حيث يبدو نضوج الفاشية في روما كاملاً ومؤلماً. لكن معظم لقطات الفيلم أخذت على طريقة «اللقطة الواحدة» (one shot). تدور أحداث الفيلم بين شخصين هما أنتونييتا (صوفيا لورين) وغابريللي (ماستروياني). تتجول الكاميرا في المنزل الإيطالي المسبوغ بفاشية الأمر الواقع، فيصير المنزل هو روما نفسها، المدانة باتهامات لا أدلة حاسمة عليها، من دون أن يتخذ موقفاً نهائياً في مسألة براءة الإيطاليين. «يوم استثنائي»، هو مجرد رسالة أخرى، من رسائل غرامشي، التي حاول فيها مراراً ربط العلاقة التكاملية بين النظام الرأسمالي والفاشية والسلطوية. وانسحبت قراءة «مايسترو السينما الإيطالية» على معظم أعمالهِ، حتى أنّ الكثير من النقاد يكادون يوافقون أنه الوحيد «الذي رأى». ومعنى ذلك، أنه الوحيد الذي نجح في تفكيك المسارات التي يمشي عليها المجتمع الإيطالي في العهد الرأسمالي.
ايتوري سكولا من الجنوب، وهذا يعني كثيراً في إيطاليا المعاصرة. الرجل الذي ولد في تريفيكو، قرب نابولي، حمل مع مجايليه آلام الجنوب التي تصح لقياس الصراع بين عالمين: واحد يلهث خلف الرأسمالية، وآخر صار يجعل العالم الأول لاهثاً خلفه. حتى عندما صار سكولا وزيراً للثقافة في «حكومة الظل» الشيوعية عام 1989، لم يكن متحمساً للتغيير من الخارج، بل كان ساعياً دائماً إلى تغيير راديكالي في بنية المجتمع. أمر بدأه في السينما قبل سنوات طويلة.
الرجل الذي طرح أسئلة ملّحة في أوقاتٍ مبكرة ـــ لكنها أسئلة لم تجد أجوبة بعد، رغم انقضاء عقودٍ على الفاشية ـــ أعلن أول من أمس آخر انسحاباته. هو انسحب قبل ذلك مرغماً من السينما، معلناً أنه يترك المساحة للشباب لمواجهة العالم المتوحش. تعب ايتوري سكولا، أصيب بالخيبات. لكنه وظف هذه الخيبات لخدمة عالم كان يراه أكثر توقاً للإنسانية. وما زال «يوم استثنائي» شريطاً صالحاً للمشاهدة اليوم، كما لو أن الفوهرر يزور عاصمة مسحوقة، بينما تتركز أوزار السلطوية في منازل المدينة وشوارعها، حيث تدفع المرأة والمثليون وأصحاب الحقوق المهدورة الآخرون أثماناً باهظة للنظام. ربما نحتاج إلى مشاهدة الشريط، في عالمنا العربي، اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى.