الموسيقى الكلاسيكية أثبتت، من خلال «بيروت ترنّم» نهاية العام الفائت و«مهرجان البستان» حالياً، أنها اختارت تحدّي الأزمة. الجاز انضم إلى نادي الصامدين مع إعلان «ليبان جاز» تنظيم أمسية (بالاشتراك مع ألفتريادس) للموسيقي الإيطالي وعازف الترومبت المخضرم باولو فريزو. للمفارقة. ولمّا كان متوقعاً أن تتأثر بالأوضاع الاقتصادية والهشاشة الأمنية، الأنشطة الموسيقية ذات الطابع الثقافي الجدّي أكثر من حفلات نجوم الأغنية الاستهلاكية العربية، حصل العكس! رموز هذا النمط المحليون «انقطع حسّهم» في بداية الانتفاضة، قبل أن «ينبّتوا» من الخليج والبلدان الغربية التي تحوي جاليات لبنانية مُوزِنة، ويعلنوا عن إحيائهم حفلات (بعضها بمناسبة الأعياد التي مرّت) خارج الحدود. بمعنى آخر، بدا أن الناس، في أحوال كهذه، يعطون الأولوية للقمة عيشهم بدلاً من الرقص على أنغام «أغاني الأرغيلة»، بينما عشاق الموسيقى المحترمة يرون فيها مادةً حيوية، إن كانت لا تتقدم على رغيف الخبز، فهي توازيه. إذاً، باولو فريزو في بيروت (ميوزكهول)، بدعوة من الجهة ذاتها، للمرة الثالثة. فقد أحيا أمسيةً في المرة الأولى عام 2008 مع التركيبة الموسيقية التي كان يعمل ويسجّل معها آنذاك وتحمل اسم Devil Quartet (رباعي الشيطان)، ثم عاد بعدها بأقل من أربع سنوات، في ربيع 2012، ليتشارك المسرح مع زميله ومواطنه عازف الساكسوفون (زار أيضاً لبنان منفرداً) ستيفانو دي باتيستا لتقديم مشروع ضمن فرقة سداسية (أي برفقة أربعة موسيقيّين). الموعدان السابقان كانا من أبرز المحطات وأكثرها احتراماً لأصول الجاز في تاريخ «ليبان جاز». فالإيطاليون، معظمهم لا يزال يحافظ على روابط متينة مع الجاز الكلاسيكي، حتى لو عمِل ونشط على ساحة الجاز الحديث الذي «يُلفّي» شللاً من المدّعين وأصحاب التجارب الهجينة والمزعجة أحياناً. لا، فريزو ليس من هؤلاء. إنه موسيقي محترمٌ عزفاً وتأليفاً. يتقن لعبة الجاز في مجالي الإحساس والتقنيات، ولا يغفل ضرورة التحديث، وليس مهووساً بـ«قتل الأب» من خلال نبذه (وهو حل للعقدة بعقدة أسوأ ونتائج أفظع، من اختصاص الفنان اللبناني المعاصر!) بل بتخطّيه انطلاقاً منه وتحيةً له… وهذا هو مشروعه الذي نسمعه في الحفلة المرتقبة مساء الثلاثاء المقبل: تحية إلى تشَت بايكر، أي عازف الترومبت والمغني الراحل. الرجل غير المحظوظ الذي وضع كل مصائب الحياة وصعوباتها في نفخته، إن عزَف، وفي نبرة صوته، إن غنّى. إلى هذا الرجل الكبير يوجّه باولو فريزو وفرقته التحية، بعد سنة ونصف تقريباً على صدور ألبومه بعنوان Tempo di Chet (تعني حرفياً «زمن تشَت»، لكنها تحمل معنى موسيقياً مبطناً وهو «إيقاع تشَت»، خاصةً أن عبارة Tempo، أي سرعة الإيقاع، مستخدمة بكتابتها الإيطالية في النظريات الموسيقية عالمياً). هذا الألبوم ناتج في الأساس من مشروع مسرحية إيطالية بالعنوان نفسه تستعيد حياة بايكر من خلال من عرفوه (يلعب دورهم ممثلون محترفون) ويتولى فيها فريزو الجانب الموسيقي، وقد صدر عن الناشر (Tǔk Music) الذي أسّسه الأخير لإنتاج أعماله وأعمال زملاء له يبحثون عن داعمٍ لمشاريعهم. يحوي Tempo di Chet مجموعة من العناوين، يتبيّن من خلالها أنها تحية إلى تشَت بايكر المغني وتشَت بايكر العازف. في الشق الأول، ارتأى الموسيقي الإيطالي اختيار باقة من الأغنيات، من كلاسيكيات الريبرتوار التي اشتهر بايكر بأدائها، مثل But Not Fot Me وEverything Happens to Me وMy Funny Valentine وغيرها، وقدمها بقراءة آلاتية خاصة تجمعه بالبيانو والكونترباص. أما في الشق الثاني، أي التحية إلى تشَت بايكر العازف، فأتت مختلفة تماماً، إذ بدلاً من الركون إلى مقطوعات اشتهر بعزفها الأخير، اختار فريزو وزميلَاه تقديم مادة جديدة بالكامل من تأليفهم (عشر مقطوعات)، كلاسيكية الملامح، معبّرة، صادقة ومشغولة بعناية، منها ما يحاكي البالادات (المقطوعات الهادئة التي تميّز بها بايكر) مثل The Silence of Your Heart (تأليف عازف البيانو في الفرقة) وPostcard From Home (تأليف عازف الكونترباص) وHermosa Beach (تأليف فريزو)، ومنها ما يقوم على نبض متوسط أو سريع ومشبّع بالألحان الجميلة والسلسة مثل Palfium (تأليف فريزو) وChat with Chet (تأليف عازف البيانو).هذا الألبوم يمكنكم الاستماع إليه في المنزل أو في السيارة بسهولة نسبية وفي أي وقت. لكنه يستحق الاستماع بشكل آخر، أكثر فرادة وأشدّ تأثيراً، أي في عزف حيّ، وهنا الفرصة ليست متاحة بهذه السهولة وفي أي مكان وزمان. إنها متاحة الثلاثاء، ودعوتنا لكم لحضورها غير مشروطة بأي تحفّظ، حيث نسمع باولو فريزو (ترومبت) يرافقه، على الأرجح، الثنائي الذي سجّل معه الألبوم، أي ماركو باردوشيا (كونترباص) ودينو روبينو (بيانو) وربما ستيفانو بانيولي (الضيف في الألبوم — درامز)، في أمسية من النوع الذي نتمنى ألاّ تصبح من الماضي في المستقبل، بوجود حاضر كهذا!