يعتبر كريم غطاس أن كلمة «نجاح» كبيرة جداً عندما يتعلق الأمر بوصف مجمل تجربة «ليبان جاز». يقول في مقابلة مع «الأخبار»: «أعتبره نجاحاً من نواح عديدة، خصوصاً في ما يتعلق باللقاءات مع الفنانين والأشخاص الذين دعمونا. من أولى ذكرياتي لدى مجيئي الى لبنان بين 2003 و2004 مقابلة بيار أبي صعب. أعتبر أنني كنت محظوظاً بلقائه، وما زلت أذكر تلك المقابلة. كنت في الـ23 من العمر آنذاك، ولم أكن أعرف لبنان، كما لم أكن أجيد اللغة العربية. لم أكن أتخيّل أنني سأكون هنا اليوم. كان من الصعب جداً تنظيم أول نسخة للمهرجان، خصوصاً أنني كنت شاباً جداً وأجهل البلد، لكنني تمكّنت من تحقيق الكثير على المستوى الشخصي».كانت لجنة «مهرجان الذوق» أول من فتح أمام غطاس الشاب أبواب الحدث، وسمحت له بتقديم حفلاته. ثم أتت حرب تموز 2006، وأدرك أن «ليبان جاز» أكثر من جمعية تقيم الحفلات. هي مؤسسة لديها مهمة وقيم تدافع عنها. يذكر غطاس في تلك المرحلة تنظيمه حفلة جاز أسطورية في مسرح «رون بوان» في باريس، حيث نجح في جمع كل الفنانين الذين سبق أن شاركوا في المهرجان. يقول بفخر إنّ أحداً لم يجمع قبلاً في أوروبا هذا العدد من الفنانين البارزين في مجال الجاز على المسرح ذاته: «ردّ الفعل كان إيجابياً جداً، ودعمني الفنانون وتضامنوا مع لبنان. وخُصّصت الأرباح للصليب الأحمر. وهذه الحفلة هي تحديداً ما سمح لـ«ليبان جاز» بأن يصبح مؤسسة معترَفاً بها في لبنان. فهكذا هي الامور هنا. ما إن ينجح أحدهم في الخارج حتى يُحتفى به في لبنان. بعدئذٍ، أصبحت الامور أكثر وضوحاً، وعلمت أنني سأستمر لأطول وقت ممكن. بعد 2006، تحوّل المهرجان الى مجموعة حفلات في الـ«ميوزكهول». وقد مرّ أكثر من 15 عاماً على شراكتي مع ميشال إلفتريادس و«ميوزكهول»، ومن دونهما ما كنت لأنظّم هذه الحفلات. خلال آذار (مارس) 2007، قدّمنا حفلات في «ستاركو»، رغم وقوف الدبابات أمام الـ«ميوزكهول». وفي بعض الاحيان، مع 10 أشخاص فقط في الصالة. ولكننا لم نتوقف». يعتبر غطاس من ناحية أخرى أن «ليبان جاز» أيضاً نجاح شخصي، لأنه سمح له بحرية انتقاء الفنانين: «أنا شخص يحب الموسيقى ويدافع عن قيم معينة. أحب المخاطرة. أفكّر جيداً، ولكني أتخذ القرارات بكل اقتناع. هذا ما سمح لي بالاستمرار في إنجاز ما أحبّه. لا أجيد الحساب، ولم أقم يوماً بدراسة السوق. لو فعلت، لما كنت سأستمر في «ليبان جاز». أصبحت بالفعل «بيزنس مان» في مجال الموسيقى، ولكني أتبع قلبي ورغباتي لأنجز ما أفعله. أخطئ أحياناً، ولكن بفرح. قدّمنا ما يقارب 250 حفلة موسيقية، وفي بعض الاوقات عملنا في أماكن عديدة في العالم. و«ليبان جاز» سمح لي بإنجاز مغامرات كثيرة وبلقاءات مهمة».
في المقابل، لا يخفي كريم غطاس أنه فشل مالياً مرات عديدة، وقدّم عدداً من الحفلات التي لم يكن يجدر به تقديمها. لكنه يقرّ بأنه غير نادم على أي حفلة نظّمها، بل استطاع أن يتعلّم من التجارب الفاشلة أكثر من تلك الناجحة. قدومه الى لبنان في حين لم يكن يتقن العربية حتى، كان قرار شاب يبحث عن هويته: «لا أعرف إن وجدتها، ولكني بالتأكيد وجدت مهنة. لمدة 20 سنة تقريباً، عشت في بلد أحببته وكرهته. وهذا هو المسار الطبيعي للأمور، نتكيّف لنستمر».
هل فكّر يوماً ما في وضع حدّ نهائي للمشروع، نظراً الى صعوبة استمراره في ظل الاوضاع الراهنة؟ يجيبنا بعفوية: «الفكرة تطرأ في بالي أحياناً. لكنني لا أجيد فعل أي شيء آخر. هذه طريقتي في المقاومة وللتعبير عن أفكاري. توقفت عن إدارة أعمال بعض الفنانين، ولكني لم أصل الى هذه النقطة مع «ليبان جاز». أحاول أن أتأقلم مع الوضع وأتخطّى الصعوبات. وأعلم أنني شخص محظوظ في لبنان، فهو جعلني أشعر بأنه إن رغب المرء في تحقيق شيء ما، فبإمكانه فعله هنا. لم أشعر بذلك في فرنسا أو أي مكان آخر».
بالعودة الى فكرة المهرجان وانطلاقته، يخبرنا غطاس عن عطلة أتى لتمضيتها في لبنان في صيف 2003، جال فيها على المهرجانات. في ليلة وصوله، شاهد عرضاً لفرقة «كركلا» في بعلبك، وأدرك لاحقاً أن المرأة التي أُغرم بها كانت إحدى الراقصات على المسرح، وكانت بالتالي من أول الاشخاص الذين رآهم في لبنان: «بدأت أهتم ببرامج المهرجانات. وكنت قد عملت في مهرجان جاز في باريس، ورحت أقارن بين الجاز ولبنان، وفكرت في إنشاء مهرجان. فهذا النوع من الموسيقى قائم على الامور غير المتوقعة والارتجالات، وهي تمثّل لبنان تماماً. نرتجل ونتأقلم لنعيش. كنت أمرّ أمام مبنى «ليبان سيل» ذات مرة، وكانت الشارة كبيرة ملصقة على المبنى. فمن هنا جاء اسم «ليبان جاز». كانت اللغة الفرنسية رائجة بين الناس في ذلك الوقت. أما اليوم، فكنت لأختار اسماً آخر، مع أنه جلب لي الحظ. فكّرت في تغييره قبل سنوات، إلا أنني منشغل بأمور أخرى أكثر أهمية».
خرج المهرجان في بعض الأحيان عن إطار الجاز، وقدّم حفلات لا تنتمي حقاً الى هذا العالم، ما عرّض صاحبه لبعض الانتقادات. في ما يتعلق بكيفية اختيار الفنانين والمعايير التي يعتمدها في هذا الصدد، يؤكد غطاس: «أختار عادة فنانين قدموا أعمالاً حديثاً. من النادر أن أدعو موسيقياً غائباً منذ مدة. وأنتقي هؤلاء استناداً إلى ذوقي الموسيقي الخاص، وإلى ما أستمع اليه في المنزل. وأدعو غالباً الاشخاص رغبة مني في لقاء أصحاب الاعمال التي تعجبني. فالجاز كما يقول جان بول سارتر مشبّهاً إياه بالموز يجب أن نستمتع به في المكان الذي يُقدّم فيه. فهو تجربة حيّة، وكل حفلة فريدة. انتُقدت مراراً لخياراتي. لكن حتى في مهرجانات الجاز العالمية الكبيرة، نرى بعض الاستطراد. على أي حال، حفلة باولو فريزو (يوم الثلاثاء المقبل ــ راجع مقال الزميل بشير صفير) تقع في إطار الجاز تماماً بما أنها تحية لتشت بايكر». علاوة على ذلك، لا يختار غطاس الفنانين وفقاً للذوق اللبناني الذي لا يفهمه على أي حال، بل يحب أن يقدّم ما يعجبه شخصياً ليرى ردّ الفعل لاحقاً. لذا يعتبر أن «ليبان جاز» مهرجان حميم وشخصي وحلم يحاول تحقيقه.
مرّ الكثير من الفنانين الذين يعتزّ مؤسس المهرجان بدعوتهم الى لبنان. ولكن يبقى ظافر يوسف من أبرز المحطات التي يفتخر بها، متذكراً المرة الاولى التي نظّم له حفلة في لبنان العام 2004: «بعنا 60 بطاقة، بالكاد تغطي تكاليف عشاء مع الفنانين. خسرنا الكثير، ولكننا في الوقت عينه ربحنا أيضاً. فكنا أول من دعاه والتقاه، ومن ثم تمكنت من دعوته ثانية وملأنا ستاركو لحفلتين. هناك أيضاً آرشي شيب الذي علّمني المقاومة. هناك الكثير من الاسماء، وأخشى أن أنسى أحداً. في الواقع، لا أندم على دعوة أي منهم. هم فنانون أنيقون عالمياً، يضعون الموسيقى أولاً. الاشخاص الصادقون في مهنتهم، أياً كانت، يؤثرون فيّ كثيراً».
يحوي Tempo di Chet مجموعة من العناوين هي تحية إلى تشَت بايكر المغني وتشَت بايكر العازف

ليس سهلاً الإتيان بفنانين من الخارج، نظراً الى الاوقات الصعبة التي يمر بها البلد أحياناً، فضلاً عن أن بعض الادارات كما يقول غطاس لا تهتم بلبنان: «أعتبر أن نجاح «ليبان جاز» يكمن في وضعه لبنان على خريطة مهرجانات الجاز العالمية. لذا يتمكن الكثير من الفنانين من الحضور الى لبنان خلال جولاتهم العالمية». من جهة أخرى، اضطر الى إلغاء بعض الحفلات، لكنها لا تتعدى ثلاثاً من أصل نحو 250 حفلة، كما كانت الحال مع هندي زهرة مثلاً: «لم أكن أعرف أنها ذهبت الى إسرائيل. وإلغاء الحفلة كان يتعلّق باقتناعاتي. لم أستسلم للضغوط، ولكني لست موافقاً على أن يذهب فنان عربي الى هناك. هي مسألة أخلاقية. في المقابل، لا أدعم حملة مقاطعة إسرائيل، بل أنا مع فكرة إقناع الفنانين بعدم زيارة أي دولة تتسبّب في التقسيم والتمييز العنصري لأسباب إنسانية».
من الناحية المالية، يقرّ غطاس بأنهم خاسرون في جميع الحالات، خصوصاً أن المال الذي يجنونه يبقى سجيناً في البلد: «المسألة الاقتصادية مهمة، ولكنها ليست أساسية. هذه المرة مثلاً، لم نكن لنقيم حفلة باولو لولا دعم المعهد الثقافي الايطالي. سمح لنا بالتنفس مالياً وبالدفع إلى الخارج. ستصبح الامور أكثر تعقيداً، لكني أكنّ الكثير من الحب والصداقة للاشخاص الذين أعمل معهم، لذا أتأثر جداً. وأخاف أن يصبح لبنان خالياً من الأنشطة الثقافية والموسيقية ويضيع. وأتمنى أن أقدّم شيئاً حتى لو كان صغيراً». ويختم بالقول ممازحاً: ««ليبان جاز» أفقدني بعض الشعر، وتسبّب في ظهور الشعر الابيض. هذا أمر إيجابي وسلبي في الوقت نفسه. لن أغيّر مساري. رأيت فيلم «طفيلي» الكوري قبل مدة، وفي لحظة ما يوبّخ الولد أباه، قائلاً له بعد سلسلة من المشاكل: أخبرتني أنك تملك خطة! فيجيبه الوالد: أفضل خطة في الحياة هي ألا يكون لدينا أي خطة. وأنا أقول الشيء نفسه. لا أملك أي خطة، لكنني أحاول أن أتأقلم وأن أجرّب حظي».

* حفلة باولو فريزو: تحية إلى تشت بايكر: 21:00 ليل الثلاثاء 25 شباط (فبراير) ـــــ «ميوزكهول» (ستاركو)