برلين | لم يحظَ أيّ فيلم في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان برلين» المقام حالياً، بهذا الكم من الدعاية والضوء الذي سُلِّط على «برلين الكسندربلاتز» قبل بداية المهرجان وقبل عرض الفيلم. السبب أن الشريط اقتباس لرواية تعتبر من أهم الروايات العالمية، ولعلّها أهم رواية في تاريخ جمهورية فايمار (الجمهورية التي نشأت في ألمانيا كنتيجة لخسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى). كتبها أدواف دوبلن ونشرت عام 1929، واقتبست إلى المسرح إلى ما لا نهاية، كما انتقلت إلى الشاشة الكبيرة ثلاث مرات، أولها عام 1931 للمخرج الألماني فيل جوتذي، وفي المرة الثانية للمخرج الألماني راينر فيرنر فاسبيندر الذي قدمها إلى التلفزيون على شكل مسلسل قصير (15 ساعة ونصف) عام 1980. وآخرها هو الفيلم الذي عرض في «مهرجان برلين» الحالي من إخراج الألماني الأفغاني برهان قرباني. فالتوقعات كانت كبيرة، والتحدي كان أكبر لقرباني في ثالث فيلم روائي طويل له. تتحدث الرواية عن فرانز بيركوف، الذي أطلق سراحه من السجن في بداية القصة ويريد الآن أن يعيش حياة صالحة. هي قصة عن رجل بسيط يصارع الظروف والمجتمع والتغيرات. في فيلم برهاني، فرانز هو فرانسيس (ويلكيت بونجي) الفار من وطنه الأم كينيا يحاول عبور البحر المتوسط نحو أوروبا الجنة المزعومة. نجا فرانسيس بصعوبة، بعد غرق القارب. بعدما جرّه البحر نصف ميت إلى الشاطئ، وعد الله بأن يصبح شخصاً صالحاً، لكن وضعه كلاجئ من غير أوراق في برلين صعب جداً. قاوم كثيراً إغراءات العمل كبائع مخدرات، لكن العصابات لن تتركه وشأنه. وقع في الحب، وشعر أنّه وجد سعادته في النهاية، لكن الحياة غير القانونية ذات جاذبية ودافع قوي، فبؤس حياته وعدم مبالاة المجتمع القاسي الذي يحيط به، سيدفعانه إلى قرارات لا يريدها. إنها قصة رجل في المجتمع الحديث يبحث عن الفداء الذي لن يأتي أبداً. من هذه القصة البسيطة، خلق برهاني فيلمه الطويل (ثلاث ساعات)، ملحمة سينمائية يتعثر فيها البطل بطريقة مأساوية بين حياة صالحة وإغراء مدينة لا ترحم، «برلين الكسندربلاتز» فيلم معاصر بشكل مؤلم.برهان قرباني هو نفسه ابن لاجئين أفغان، وممثله الرئيسي هو لاجئ أيضاً. أعطى المخرج صوتاً لهؤلاء. نجح في تقديم القصة بطريقة معاصرة عن ألمانيا الحديثة، الرجل الرئيسي هنا هو أسود، من طالبي اللجوء، لكنه يتورط مع عصابة تجار مخدرات. حتى البرلينيون عندما يرونه، يأتون إليه سعياً للمخدرات، لا شيء يساعده. الجانب المضيء هو ميزي (جيلا هاسي)، المرأة التي تصارع من أجل روح فرانز وهي على علاقة أيضاً مع راينهولد (البريتش شوتش – بدور وأداء رائعين). رينولد هو الشيطان، بشعر أشقر وصوت عالٍ رفيع، يرمز عالمه إلى القوة المغرية للرأسمالية: المال، المخدرات، الجنس. لكن خلف هذا الإغراء، هو سرطان، عنصر مفكك من السهل أن يقع ضحيته شخص لم يُسمح له أن يكون جزءاً من المجتمع.
من السهل قراءة الشريط على أنه فيلم نقد اجتماعي. لكن برهاني لا يقدمه كذلك. لقد عاملَ الفيلم مثل الكتاب، قسمه إلى خمسة أقسام ومقدمة. قصة كلاسيكية عن صعود وهبوط، تاريخ إنسان في ثلاث ساعات. بصورة وألوان متلألئة، قدم برهاني الفيلم في شوارع برلين، في الأندية المظلمة، درب معاناة فرنسيس خاص جداً لكن مصيره شائع أيضاً في ألمانيا الحديثة. وهنا الجانب الأسطوري من الفيلم: قدم برهاني الرواية كدراسة اجتماعية واقعية معاصرة للغاية، أعطى انطباعاً بأن العديد من الفترات الزمنية قد تكون موجودة في وقت واحد.
«برلين الكسندربلاتز» فيلم يجرؤ على شيء ما، معاصر تماماً مع وجود إشارات أدبية، يحاول تطوير لغته المرئية والمسموعة، وهذا ما جعله طويلاً. ملحمي تلعب فيه الموسيقى والصوت بطريقة ممتازة. لا يرغب أن يكون جزءاً من اقتباس أدبي عرض على الشاشة الكبيرة فقط. إنّه يهدف ليكون عملاً فنياً كاملاً، سمفونية من الشخصيات والحوارات والأصوات والصور التي تصعب مجاراتها في بعض الأحيان. مع ذلك، فهو يعاني من نقاط ضعف واضحة، والسبب يعود إلى الشخصيات. فرانسيس بصفته مركز القصة، مستخدم بشكل محدود، ومتناقض إلى درجة أنّه بالكاد يمكن التعاطف معه على الرغم من وجوده المستمر على الشاشة. هو رجل لا يتمتع بصفات جيدة، وذو معرفة ضعيفة بالطبيعة البشرية، حتى ميزي تبدو متخبطة بطريقة غير مقنعة. أمر يحوّل الاهتمام تلقائياً إلى رينهولد الشرير. عرف برهاني كيف يتخطى التوقعات بطريقة ما، ويستحق الاحترام على ذلك. إعادة اقتباس الرواية كانت عملية نصف ناجحة. الفكرة والقصة المعاصرة كانتا جيدتين جداً، لكن النتيجة ليست كذلك!