إذا فشل الرجل الكونغولي في قطف الكميّة المطلوبة من شجر مطّاط، كان سيخسر إحدى يديه، أو الاثنتين معاً. يأتي جندي ويقصّهما، وفق قانون عقوبات ملك بلجيكا ليوبولد الثاني الذي جعل من الكونغو مملكته الخاصّة سنة 1885، وألحق بمواردها البشرية والحيوانية والطبيعية فظاعات لا يمكن تصوّرها. في «المتحف الملكي لأفريقيا الوسطى» في بلجيكا، الذي يضمّ المجموعة الخاصّة للملك من أعمال ولقى فنية وأثرية جمعها من الكونغو، لن نعثر على صور أطراف مبتورة ملطّخة بالدماء والتراب ولا 10 ملايين جثّة سقطت نتيجة الاستعمار الطويل للبلد الأفريقي. كل شيء نظيف في المتحف الذي ظلّ يحتفي بهذه المنحوتات المسروقة كما لو أنها إنجازات للملك. في مقابل ذلك، تغافل لسنوات طويلة عن ذكر السياق الدموي الذي جاء بهذه اللقى الأفريقيّة إلى بلجيكا. لكن أخيراً، أعلن المتحف أنه يعتزم البدء بمواجهة تاريخ البلاد الاستعماري عبر إعادة كتابة تعريفات للأعمال ضمن سياقات نقدية للذاكرة الاستعماريّة للبلاد. إلا أن لمحة سريعة على مجموعة المتحف وتسمياتها، تُظهر اعترافات خجولة بما فعله الاستعمار فعلاً، إذ يكتفي بوصف المتحف على أنه كان «أداة دعائية» للملك ليوبولد، في حين يفوته ذكر حدائق الحيوان البشرية التي عرضت لسنوات طويلة مئات المواطنين الكونغوليين في باحة المتحف.
صفائح نحاسيّة مصبوبة من بنين، معروضة في المتحف البريطاني

منذ السبعينيات، شهدت المتاحف الإثنية والأنثروبولوجية التي انتشرت في الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر، حملة جماعية لإعادة قراءة نقديّة لتاريخ القطع الفنية الأفريقية والآسيوية والسومرية والفرعونية. لكنها رغم كلّ شيء، بقيت محاولات لمحو الماضي عبر تبديل تسميات هذه المعروضات الأثريّة من «الفنون البدائيّة» إلى عناوين تصبّ في خانة التنوّع. في مقالتها «المتاحف لن تتحرّر من الاستعمار»، تحسم الباحثة الفنية سمية قاسم، أن التخلّص من الاستعمار لا يمكن أن يكتفي بمصطلحات التنوّع فحسب، مشيرة بذلك إلى المتاحف الأنثروبولوجية في ألمانيا وبريطانيا خلال القرن التاسع عشر، التي عملت على مأسسة الخطاب الاستعماري والعنصرية القائمة على ثنائيات مختزلة بين العالم والمتحضّر وكل حضارة أخرى. ممارسة تنبثق أساساً من الخطاب الاستعماري الذي كان يقرّ حتماً أن الورثة الحقيقيين لإرث الشرق والمستعمرات الأفريقيّة ليسوا العرب أو الأفارقة، بل الأوروبيون، بوصفهم منقذي هذه الآثار والأعمال الفنية. كانت الأركيولوجيا والتنقيبات الأثريّة أداة علميّة استعماريّة أخرى، أتاحت ــ تحت شعارات الاستكشاف وإنقاذ الحضارات ــ الاستيلاء السياسي على أهم اللقى الأثريّة في البلدان خلال التنقيبات التي كان يجريها الأوروبيون في الدول. أداة علميّة، لا فارق بينها وبين الأدوات الفنيّة كالمتاحف التي جاءت لترسّخ نوعاً من العلاقة المتطوّرة بين الحكومات واستخدامها للثقافة كأداة جديدة للسيطرة الاجتماعية على المواطنين، وفق تعبير عالم الاجتماع البريطاني توني بينيت في تأريخه لمراحل المتاحف الأولى خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر في بريطانيا. إذ أنها لم تكن بنظر الحكومات إلا وسيلة لتهذيب الحياة الداخلية للمواطنين، بالطريقة نفسها التي فرضت فيها هذه الحكومات سردياتها الاستعمارية على المتاحف.
انقضى زمن الاستعمار. استعادت معظم الدول أراضيها، لكن الإرث الثقافي والفني الذي اقتطعته من مستعمراتها ما زال يُعرض في المتاحف. تقليد قديم بدأ يتعرّض في السنوات الأخيرة لمساءلة ونقد مباشرَين من قِبل بعض الحكومات التي تطالب حالياً باستعادة أعمالها المسروقة، خصوصاً مع افتتاح بعض الدول الأفريقيّة متاحفها الخاصّة. لكن هل تحرّر الدول الغربيّة متاحفها من الاستعمار؟

التجربة الأفريقيّة: استعادة وإعارة
بعض الدول الأفريقية لم تعد تقبل بأقلّ من استعادة أعمالها تدريجاً من المؤسّسات الأوروبية. هذا ما نصّ عليه اجتماع لجنة «الإرث الثقافي ومتحف المجتمع الاقتصادي لدول غرب أفريقيا» ECOWAS السنة الماضية. إذ أقرّت مشروع اتفاق دولياً بشأن استعادة الأعمال الأثرية والثقافية، موصية وزراء ثقافة الدول باعتمادها.
قناع كيفويبي المخطّط من جمهورية الكونغو الديمقراطيّة (من متحف الحضارات السوداء في السنغال)

تزامن هذا الاجتماع مع افتتاح بعض البلدان الأفريقية متاحفها الخاصّة في خطوات أولى لنشر سرديّتها الخاصة عن أعمالها التراثية وتحريرها من قبضة المتاحف الأوروبيّة. دشّنت السنغال أخيراً «متحف الحضارات الأفريقيّة»، الذي يضمّ 18 قطعة فنية وأثرية أفريقية، فيما يعتزم استكمالها عبر استعادة تلك الموجودة في المتاحف الأخرى. البداية كانت مع فرنسا التي أعادت العام الماضي سيف الحاج المتصوّف عمل بن طعل إلى السنغال. تندرج الخطوة ضمن خطّة أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2017، واعتبرها كثيرون من النقاد والمؤرخين الفنيين خطبة تاريخية لأنها أعلنت، للمرّة الأولى، تحرير الفن الأفريقي من المجموعات الكولونياليّة القابعة في فرنسا، مؤكّداً أن تحقيق ذلك سيكون من أولوياته خلال السنوات الخمس المقبلة. أوصى ماكرون الناقدة الفنية الفرنسية بينيديكت سافوي والأكاديمي السنغالي فيلوين سار بكتابة تقرير شامل ومطوّل حول الشروط التي يجب أن تستوفيها إعادة الآثار الأفريقيّة إلى بلدانها. أما نتيجة التقرير فقد جاءت مخيّبة لمعظم المتاحف الأوروبيّة، إذ أشار، بلا مواربة، إلى أن الاستيلاء على الإرث الأفريقي من خلال السرقة والنهب والخداع يحتّم ضرورة ردّها إلى بلدانها الأصلية. ما دفع بعض المؤسّسات منها المتاحف الألمانية والبريطانية، إلى اتهام التقرير بأنه يطالب بإفراغ المتاحف من محتوياتها.
شيّد الجيش الأميركي معسكره فوق بوّابة عشتار من دون الاهتمام بقيمتها التاريخية


قد لا تبلغ التجربة النيجيرية الجديّة التي طالبت بها السنغال باسترداد أعمالها. منذ بدء نيجيريا العمل على تشييد «المتحف الملكي في بنين» (سيُفتتح العام المقبل)، بدأت الحكومة بدعوة عدد من متاحف هولندا وبريطانيا والسويد وألمانيا والنمسا وأميركا بإعادة المنحوتات التي نهبها الجيش البريطاني من القصور الملكية في بنين عام 1897، والتي بلغت 400 تمثال وقطعة برونزية. غير أن الطريق إلى استعادتها لم يكن يسيراً كما في حال فرنسا. بعد مناقشات ونزاعات بين الحكومة النيجيرية والمؤسّسات الفنية توصّلت هذه الأخيرة إلى منحها الأعمال لنيجيريا كإعارة لفترة زمنية محدّدة. اتفاق أثار سخط مجموعات فنية أفريقية وأكاديميين اعتبروا أن أوروبا هي من يجب أن يستعير هذه الأعمال من البلدان الأفريقيّة التي تتبع في متاحفها مقاربة مختلفة مع الزمن عبر جعلها عمليّة حية مستمرة باستقبالها أعمالاً معاصرة أيضاً.

«محقّقو العراق» بحثاً عن السرقات الحديثة
لم تحدث هذه السرقة في القرن التاسع عشر. ولم يعلّق الجنود رؤوس المواطنين على الشجر في الخارج. فعلوها في الأروقة المخبّأة وغرف سجن أبو غريب ربّما. لكن لدى اقتحام متحف بغداد تنازلوا عن تخفّيهم، وسرقوا خلال الأشهر الأولى من الاحتلال الأميركي حوالى 15 ألف قطعة أثريّة. حتى الآن، عاد إلى العراق 7000 من هذه المنحوتات، وظلّت 8000 منها مفقودة. هذه هي الأعداد التي عُرفت من المتحف وحده لا من المواقع الأثرية. سنة 2003، شيّد الجيش الأميركي معسكره فوق المساحة الأثريّة لبوّابة عشتار من دون الاهتمام بقيمتها التاريخية.

نائب مدير المتحف العراقي في بغداد محسن حسن بجوار الآثار المدمّرة بعد الاجتياح الأميركي لبغداد سنة 2003 (غيتي)

تبعثرت النقوش والمنحوتات في طريقها من العراق بين المتاحف والمجموعات والمواقع الإلكترونيّة. في ظلّ هذه الفوضى، نشطت مجموعة من الأركيولوجيين والمحامين العراقيين، بقيادة المتخصّصة في الترميم في المتحف الوطني وفاء حسن تحت اسم «محققو القطع الأثرية». تأخذ المجموعة على عاتقها ملاحقة اللقى العراقيّة المفقودة من المتاحف. مهمّة تبدو مستحيلة، غير أن غياب الأوراق الوثائقية عن الأعمال تسهّل العثور عليها في المواقع الإلكترونيّة وفي السوق السوداء، خصوصاً أنه يسهل تمييز أنها تعود إلى بلاد النهرين، من الحقبات السومريّة والبابليّة والآشوريّة. تحت هذه الملاحقات القانونية، أعاد المتحف البريطاني السنة الفائتة مجموعة كبيرة من اللقى الأثريّة (156) إلى العراق، بعدما تبيّن أنها تعود إلى عصر السلالة البابليّة الأقدم. تكتفي المجموعة حتى الآن، بملاحقة القطع الأثريّة الحديثة المفقودة حديثاً. أي تلك التي سُرقت ما بعد عام 2003. لكن ما حدث مطلع القرن الماضي، لم يكن إلا الوجه الأكثر وضوحاً لما أطلق عليه التنقيبات الأوروبية الأركيولوجية في البلدان العربية خلال القرن التاسع عشر، التي انتهت أخيراً في أشهر المتاحف الأوروبيّة.
قناع المرأة السومريّة الوركاء ( 3100 ق. م) سرق من المتحف العراقي عام 2003، قبل أن يعثر عليه مجّدداً

حتى الآن يفخر متحف اللوفر في باريس بأنه صاحب المجموعة الآشوريّة الأولى في العالم منذ سنة 1847. إذ يبرّر على موقعه بأنها المنحوتات والنقوش التي اكتشفها القنصل الفرنسي في بول إميل بوتا في الموصل في مواقع خورس آباد. وفي طريقة عرضها، يضع هذه اللقى ضمن عنوان واسع يجمعه مع اللقى الأفريقيّة وغيرها من الشعوب الأخرى تحت عنوان قسم آثار الشرق الأدنى. المتحف الوطني البريطاني الوطني أيضاً، ما زال حتى الآن يدرج مصادرة اللقى البابلية والآشوريّة في مواقع التنقيب في القرن التاسع عشر، ضمن دور المتحف الطليعي في تعريف الجمهور إلى أهمية التراث العراقي وتاريخه. تعريف لا يزال يحمل الذهنية الأبويّة نفسها لدى الرحالة الأوروبيين الذين اعتبروا أن الاستيلاء على الآثار هو ما سيضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة.