عندما بلغت إيطاليا ذروة نكبتها بفيروس كورونا، وذروة عجزها في مواجهته، وبالتالي ذروة حاجتها إلى عون، انتشر مقطع فيديو طويل، يلوم بشدة الدول «الصديقة» وحكّامها على امتناعهم عن دعمها. الفيديو من شقّين، تتكلّم فيه صبية بصوت رتيب... تلك الرتابة التي تَتحدَّد عندها نبرة الصوت عند بلوغ آخر درجات القهر قبل الانفجار. الشقّ الأول، يأخذ شكل مقدّمة قصيرة انتقادية لحكام أوروبيين ولدونالد ترامب، قبل أن ينتقل الحديث، في الشق الثاني، إلى عرْض ما قدّمته إيطاليا للعالم، تاريخياً، في العلوم والأدب والفنون على أنواعها (الرسم، النحت، العمارة، الموسيقى، السينما…). باختصار، أرادت هذه الصرخة أن تقول: ما رأيكم لو استعدنا (أو احتكرنا استخدام) ما قدّمناه للبشرية؟ على سبيل المثال، ماذا يحصل لمتحف اللوفر الفرنسي لو استعدنا منه اللوحات التي تحمل توقيع رسامين إيطاليين؟ (تخيّلوا!) أو بمعنى أشمل، ماذا لو «سَحبَت» إيطاليا مساهمة مواطنيها من التراكم العلمي والفني والأدبي للبشر؟

من هذا المنطلق، لم تكن إيطاليا تحتاج في محنتها إلى مساعدة مباشرة فقط، في محاربة كورونا. بل ثمّة دعم من نوع آخر، من شأنه أن يبثّ بعض المعنويات، أو ربما العزاء لشعبها، عبر الإضاءة على تاريخ البلد العريق، من خلال تكريم رموزه. ولمّا كان الموضوع بحاجة إلى تحديد في وجهة البحث لِما تتمتّع به إيطاليا من غنى ثقافي، ارتأينا توجيه المنظار إلى الموسيقى، لحصر المسألة في مرحلة أولى، ثم تركيزها، ثانياً، على شخصيات يشكّل عام 2020 محطة تكريمية مبرّرة لها (مئوية ولادة على سبيل المثال). بمعنى آخر، كثيرة هي الرموز الموسيقية التي يحتفل العالم بذكراها هذه السنة، على رأسها بيتهوفن الذي كَسَفَت «سَنَتُه» جميع زملائه، لكننا سنعطي الأولوية إلى اسمَين إيطاليَّين في سلسلة التكريمات التي سنتناولها تباعاً. الشخصية الأولى هي المؤلف الإيطالي من عصر الباروك جيوزيبي تارتيني (1692 ـــ 1770) الذي رحل في السنة التي ولد فيها بيتهوفن، وهذا العام تصادف الذكرى الـ250 لغيابه. أما الثانية، فهي من مجال الأداء الموسيقي في القرن العشرين، نكشف عنها لاحقاً. ولكي تكتمل دائرة التكريم، نضيف شخصية ثالثة، من المجال الأخير نفسه (الأداء)، لكنها تمثّل المستقبل وليس الماضي كما في حالتَي الشخصيتَين الأولى والثانية، ونقصد نجماً صاعداً ومغموراً، ستفتخر به إيطاليا في السنوات القليلة المقبلة، بالتأكيد.
إذاً، موضوعنا اليوم هو جيوزيبي تارتيني. إنه اسم شهير في إيطاليا نهاية القرن السابع عشر ومطلع الثامن عشر. لكن وجود شخصيات فائقة الشهرة في بلده، وخلال الفترة ذاتها تقريباً، أسهمت، لاحقاً، في الحدّ من انتشار أعماله، وعلى رأس هؤلاء، كما تعلمون، الكاهن الأحمر أنطونيو فيفالدي (1678 ـــ 1741)، واضع «الفصول الأربعة»، موسيقياً. كذلك، بالإضافة إلى المنافسة التي واجهته من مواطنيه في حقبته، أسهمت عوامل أخرى في تغييب اسم تارتيني وتهميش أعماله من قِبَل الموسيقيين (باستثناء عملٍ واحد ـــ راجع الكادر الخاص به)، أبرزها معاصرته لعمالقة هذه المهنة خارج إيطاليا، وفي طليعتهم الدماغ الموسيقي الأكبر الذي عرفته البشرية: يوهان زيباستيان باخ (1685 ـــ 1750). أضف إلى باخ، هاندل وتيليمان والفرنسيين وإلى حدٍّ ما هايدن، قبل أن تأتي آلهة وأنصاف آلهة لاحقاً وتقضي على آمال المؤلفين «البشر»، وتارتيني منهم: موزار، بيتهوفن، شوبرت، شوبان، شومان، تشايكوفسكي، فاغنر، سترافينسكي… علماً أن نمط تأليف هؤلاء مختلف بدرجة تصاعدية (نسبةً إلى التسلسل الذي ذُكرت فيه أسماؤهم) عن أسلوب تارتيني وروح الباروك عموماً. مع ذلك، يمكن القول إن مكتبة موسيقية محترمة (1500 ديسك وما فوق)، لا «يجب» أن تحتوي على 50 ديسك لتاريتيني، لكن، لا يجوز ألّا يتمثَّل فيها ولو بديسك واحد على الأقل.
كتب أعمالاً بالمئات، بالأخص من فئتَي الكونشرتو والسوناتة الخاصة بآلة الكمان


جيوزيبي تارتيني مولود في بيران (أقصى شمال شرق إيطاليا، وهي تابعة اليوم لسلوفينيا) عام 1692، أي عندما كان عمر باخ سبع سنوات، وكذلك هاندل وسكارلاتي الابن، وكان فيفالدي قد بلغ سنّ الـ14. لكن، بخلاف الأخير، لم يشعر أن الله قد «دعاه» لخدمته من خلال دخول الحياة الكهنوتية، فتوجّه، معاكساً إرادة عائلته، نحو دراسة الحقوق والموسيقى، لا بل «ابتعد» لاحقاً عن تأليف الأعمال الإنشادية الدينية (مكتفياً بعدد قليل جداً). علماً أن هذه الفئة شكلت ممرّاً شبه إجباري في حينه لمعظم المؤلفين، رجال الدين منهم (فيفالدي مثلاً) والمدنيون (باخ أولاً). بداية علاقته الموسيقية كانت مع الكمان، الذي كان الآلة الأولى في أوروبا (وإيطاليا تحديداً) إلى جانب الأرغن الكنسي والكلافسان، على غرار مواطنيه الكثر في ذلك العصر وبعده: من كوريلّي وألبينوني وكاهن الكمان فيفالدي، إلى لوكاتيلّي وفيوتّي وشيطان الكمان باغانيني.
منذ دخوله الجامعة، انتقل تارتيني إلى بادوفا. تزوّج هناك، سراً، من قريبة أسقف المدينة، حتى انكشف سرّه بعد ثلاث سنوات، فغادر المدينة الإيطالية وتنقّل مع شريكته بين مدن عدة، ثم عاد إليها بعدما عقد الصلح مع الأسقف، وتسلّم إدارة أوركسترا كنيسة مار أنطوان الشهيرة في بادوفا، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته، وأسس كذلك معهداً لتعليم الكمان، قصده الطلاب من جميع أنحاء أوروبا. عدا عن التأليف والتعليم، عمل تارتيني في البحث الموسيقي النظري والعلمي، ووضع العديد من الدراسات حول تقنيات العزف على الكمان وخصائص القوس وعلم التناغم (هارموني) وعلم الأصوات (أكوستيك)، إذ كان مهتماً بالرياضيات كعلمٍ متصلٍ بشكل وثيق بالموسيقى، وأسهمت أبحاثه في تطوير مناهج الكمان في أوروبا والعالم. أحد أهم أسباب عمله على تطوير مناهج الكمان آتٍ من الآلة نفسها. إذ كان تارتيني أول من اقتنى آلةً من صنع الأسطورة أنطونيو ستراديفاري (راجع الكادر الخاص به)، ما وفّر له الغوص في مجال واسع لناحية إمكانات الآلة، وهي أعلى ما بلغه الكمان في الكمال لغاية اليوم.
كتب جيوزيبي تارتيني أعمالاً بالمئات، بالأخص من فئتَي الكونشرتو والسوناتة الخاصة بآلة الكمان، وبقي أسلوبه أميناً للباروك، بالنكهة الإيطالية تحديداً. فمن ناحية، عاصر بدايات العصر الكلاسيكي، لكنه لم يلتحق به، ومن ناحية أخرى، أسلوبه، ضمن موسيقى الباروك، مختلف جداً عن باخ. إذ وضع أحادية اللحن وسلاسته في مقدمة العمل، بينما امتاز زميله الألماني بتعدّد الألحان السائرة بالتزامن والتناغم (نادراً لحنان وغالباً ثلاثة أو أربعة ألحان أو أكثر). عام 1992، عرف عالم الموسيقى الكلاسيكية تحريكاً لاسم تارتيني في الذكرى المئوية الثالثة لولادته، وصدرت ديسكات عدة خاصة بأعماله، بعضهاً كان يسجّل للمرة الأولى في التاريخ، والمهتمون كانوا من الإيطاليين مثل فابيو بيوندي عازف الكمان الشهير، المختص بحقبة الباروك (معظم عازفي الكمان الإيطاليين يهتمون بشكل خاص بتلك الحقبة). لكن في الذكرى الـ250 لوفاته، لا يبدو العالم مهتمّاً جداً بتارتيني، للسبب الذي ذكرناه أعلاه، أي انشغال الجميع ببيتهوفن دون سواه… قبل أن يكنّس كورونا جميع مخططاتنا للعام 2020.



زغردة الشيطان
اليوم، وكما كان دائماً، يرتبط اسم جيوزيبي تارتيني بعمل شهير، يعرفه أي مهتمّ بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، ويدخل ضمن ريبرتوار معظم عازفي الكمان الكلاسيكيين في العالم. إنه Devil’s Trill، وهو عنوان لمقطوعة من فئة السوناتة للكمان المنفرِد (تعزَف غالباً بمرافقة بيانو أو بتوليفات أخرى، يبقى الكمان أساسها)، واسمها مؤلَّف من كلمتَين، واحدة تعني «الشيطان» والثانية «زغردة»، هي مفردة تقنية في النظريات الموسيقية يراد منها عزف نوطة واحدة، لكن من خلال تزيينها بعزف سريع (لنقل إنه رشٌّ أو ترجيف) لنوطة مجاورة لها. أما سبب التسمية، فآتٍ من الحدث الذي رواه عالم فلك فرنسي عن لسان تارتيني. تقول الرواية إن المؤلف الإيطالي حلم أن الشيطان دخل غرفة نومه وجلس على حافة السرير وأبرم معه عقداً يتخلّى فيه عن نفسه/ روحه (تلك التيمة الشهيرة في الأدب والموروث الثقافي)، ثم طلب من زائره، في المقابل، أن يعزف له على الكمان، ففعل. يتابع تارتيني أنه سمع أجمل موسيقى في حياته، واستيقظ منقطع النَفَس وحاول تدوين ما سمعه… وفشِل. لكنه، أعاد خلق الجو العام لما سمعه من عزف الشيطان، فكان هذا العمل الذي خلّده.
تتألف هذه السوناتة من ثلاث حركات. الأولى هادئة وذات أجواء مريحة وتشكّل ربع العمل من حيث المدّة، تماماً كالحركة الثانية، النشطَة التي تجسّد بأمانة أسلوب تارتيني في التأليف، خاصةً لناحية ملامح اللحن وتطوّره. الحركة الثالث هي النصف الثاني من السوناتة، وفيها يبدأ التشنج تدريجاً ليبلغ الذورة في النصف الثاني منها (أو الربع الأخير من العمل) أي الذي أعطى اسمه لهذه التحفة. فهنا تبدأ «زغردة الشيطان»، تتوقف المرافقة الموسيقية إن وجدَت، وينفرد الكمان بعزف ذي طابع مرتَجَل أو ما يُعرف بالـcadenza. المقطع صعب جداً تقنياً، حتى بمعايير اليوم (أكورات من ثلاثة أو أحياناً أربعة أصوات، وهو أمر غير ممكن إلا بالتحايل في حالة الكمان، بسبب موضع الأوتار المقوَّس على الزند). ومن هذا المقطع تحديداً، ورث لاحقاً نيقولو باغانيني أسلوبه في التأليف (وربما لهذا السبب لُقِّب بـ«شيطان الكمان»).
نُشر العمل بعد نحو ثلاثة عقود من رحيل صاحبه. فتارتيني لم يخبر أحداً بما حصل معه، باستثناء عالم الفلك الفرنسي، إذ أن الكنيسة ما كانت لتحبّذ محادثة مع الشيطان، ولو في الحلم. لا نعرف تحديداً متى كتب الرجل هذا العمل، تماماً كمعظم أعماله التي حظيت هذه السنة ببعض الاهتمام من جانب الموسيقيين في العالم، وعازفي الكمان تحديداً.


ستراديفاريوس
أنطونيو ستراديفاري (1644 ـــ 1737) هو صانع آلات موسيقية وترية من مدينة كريمونا الإيطالية التي اشتهرت عموماً بهذه الحرفة. صنع الرجل نحو ألف آلة (تسمّى «ستراديفاريوس»)، بين كمان وتشيلّو وألتو وغيتار وغيرها من الآلات الوترية التي كانت رائجة في عصره، أي عصر الباروك موسيقياً، ولم تَعُد. وصلَنا من هذه الآلات نحو 700، وهي، بشكل أساسي، آلات كمان (الحصة الأكبر في صناعة ستراديفاري) وفيولا وتشيلّو. تناقل المؤلفون ولاحقاً الموسيقيون هذه الآلات، حتى باتت لها أسماء معروفة عالمياً (بعضها أخذ اسم موسيقي كبير اقنتى واحدة منها لفترة طويلة) أو ألقاباً، لسبب أو لآخر، وهي تعتبر كنزاً في صناعة الآلات الوترية. إنها تحف تفوق الخيال في جمال النبرة وزخم ودقة الأصوات.
معظم عازفي الكمان الكبار اقتنوا نموذجاً أو أكثر أحياناً من آلات «ستراديفاريوس»، وبعض من لم يحالفهم الحظ باقتناء واحدة لنقصٍ في ملايين الدولارات المطلوبة لهذا الغرض (مليونان على الأقل) يلجأون إلى استعارتها أو استئجارها من مؤسسات تملكها. يحكى أن ثرياً ركن سيارة بورش في مكان عام، وعلى مقعدها وضع كمان «ستراد» (التصغير المعتمد لآلات «ستراديفاريوس»). عاد ولم يجد سيارته، لكن ما لبث السارقون أن تركوها في الطريق… واحتفظوا بالكنز! الأساطير حول هذه الآلات كثيرة، وهي تتعرض كثيراً للسرقة والبيع في السوق السوداء، وحصل أن نسيها موسيقيون كبار في التاكسي أو في مكان عام، لكن نادراً ما لا يستعيدونها بعد ذلك، لأنّ كثيرين يعرفون قيمة الـ«ستراد»، لكن قلّة تستطيع أنّ تتعرَّف إليه!
أنطونيو ستراديفاري ليس الصانع الوحيد للآلات الوترية والكمان خصوصاً. هو الأهم بالتأكيد، ويليه صانع كبير، إيطالي أيضاً، هو جيوزيبي غوارنيري… ومن لا يملك آلة خارجة من محترَف هذا أو ذاك، فإن حظوظه في بلوغ مستويات متقدمة في عالم الكمان هي شبه معدومة، مهما كبرَت موهبته، مع الأسف.