بعد غدٍ الأحد، تعتلي «الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية» درج معبد باخوس الروماني في قلعة بعلبك لتقديم أمسية بدون جمهور. الحدث ترعاه «مهرجانات بعلبك الدولية» التي تنفّذ فكرةً طرحها المايسترو هاروت فازليان، المدير الفني للمشروع والمشرف عليه تمريناً وتنفيذاً. إنها الأمسية الأولى للأوركسترا الوطنية التي تعاود نشاطها بعدما وضعها كورونا في الحجر، شأنها شأن مليارات البشر حول العالم. يحمل الموعد عنوان «صوت الصمود»، وسيُبث على المحطات المحلية وبعض القنوات العربية، بالإضافة إلى حساب فايسبوك وقناة يوتيوب الخاصَّين بالمهرجان العريق. لذا أُرفِق بهاشتاغ #علّي الموسيقى، وهي دعوة عامة إلى متابعة الأمسيات من خلف الشاشات.في عام 1974، جرت الدورة الأخيرة من «مهرجانات بعلبك»، قبل أن تُعَلّق الأنشطة لأكثر من عقدين، عندما تم تنظيم أول دورة بعد الحرب الأهلية عام 1997. منذ ذاك الصيف، لم يغِب المهرجان سوى عام 2006 حيث تزامن انطلاقه مع العدوان الإسرائيلي على لبنان، فاقتصرت الدورة على الحفلة ما قبل الافتتاحية لفيروز في استعادة لمسرحية «صح النوم». رغم الخضّات الأمنية المتتالية، تعثر المهرجان جزئياً عام 2013 فقط، لكن باقي الدورات وجدت دائماً مكاناً لها في صيف لبنان السياحي… ووصل كورونا. ما عجزت عنه الحروب والثورات والبراكين والزلازل في تاريخ البشرية الحديث، فرضه الفيروس المجهري الصامت: تعطيل الأنشطة البشرية كافة على مستوى العالم. المهرجانات في لبنان، كما في العالم، ألغت دوراتها، في حين ظهرت في الأيام الأخيرة بعض محاولات العودة، في أوروبا بشكل خاص، من خلال أمسيات أقيمت إما بدون جمهور أو بحضور قليل وبتدابير وقائية صارمة. في لبنان، التفكير جارٍ لاجتراح بدائل تبقي حضور الموسيقى الحية بحدّه الأدنى ريثما يصرخ أحد الباحثين «أوريكا» (وجدتها) ويعلن عن لقاح ينهي الكابوس الأممي. أول ما رشح في هذا السياق أمسية «مهرجانات بعلبك» التي ستقام عند التاسعة من مساء الأحد. إنها أمسية يتيمة، لغاية الآن، والهدف منها بث بعض المعنويات في معركة الصمود أمام المجهول صحياً. أما اقتصادياً، فلا معنويات ولا من يحزنون.
منذ أن أعلن المهرجان عن الحفلة، رصدنا إطلالات القيمين عليها والإعلانات المرفقة، فلاحظنا أن هناك تكتّماً حول البرنامج. اتصلنا بقائد الأوركسترا هاروت فازليان للاطلاع على ما سيتخلل الأمسية، فأكّد أن ثمة رغبة بعدم إعطاء تفاصيل في هذا الشأن، لكن القليل من المعطيات المتوافرة يتيح رسم ملامح البرنامج الفني بالتي هي أحسن.
في البداية، وكما يمكن أن يتوقّع أي مراقب، لا يمكن لحفلة كهذه أن تخلو من حضور للمؤلف الألماني بيتهوفن لسببين أساسيَّين: إنها سنته موسيقياً بدون منازع، إذ يستعيد العالم ذكرى ربع قرن على ولادته. وكما عاكسه في حياته، لاحق القدر بيتهوفن في عليائه بعد 250 على ولادته، فنكّد الاحتفالية العالمية في بدايتها وعطّل مئات الفعاليات التي كانت تتحضر لتكريم الأصمّ الذي ملأ الآذان إبداعاً. بالتالي، كان لا بدّ من أن تتضمن الأمسية البعلبكية عملاً من ريبرتواره الأوركسترالي تحديداً. السبب الثاني له علاقة ببيتهوفن الإنسان الذي دعا البشر إلى التآخي والثورة على الظلم، أقله بشكل مباشر في سمفونيته التاسعة الشهيرة، تلك التي تحوي «نشيد الفرح» (القصيدة للأديب الألماني شيلر) في نهايتها. هذا النشيد يقع في منتصف الحركة الرابعة (الأخيرة) من هذه السمفونية الضخمة، وسيتم تقديمه من دون التمهيد الآلاتي الذي يسبقه في تلك الحركة (النصف الأول من الحركة تقريباً). في الشق الكلاسيكي الغربي، يتخلل الحفلة عمل للمؤلف الإيطالي فيردي، وهنا الاحتمالات كثيرة (عمل كورالي مقتطف من أوبرا عموماً)، بخلاف زميله الألماني من القرن العشرين كارل أورف الذي تنحسر معه الخيارات في عمله الإنشادي القروسطي الشهير «كارمينا بورانا». والأرجح أن الأداء سيقتصر على مقدمة العمل المهيبة التي تحمل عنوان O Fortuna. فقط؟ كلا، إذ يتوّج الحضور الكلاسيكي عمل للمؤلف الروسي إيغور سترافينسكي، سيكون بدون شك أحد انفجاراته الصوتية/ الإيقاعية من ريبرتوار موسيقى الباليه التي أبدعها هذا الدماغ الكبير.
لا يمكن لحفلة كهذه أن تخلو من حضور للمؤلف الألماني بيتهوفن


في الشق المتعلّق بكل ما هو غير كلاسيكي غربي، لم يفصح المدير الفني للحدث وقائد الأوركسترا، هاروت فازليان، عن أي معلومات سوى أن البرنامج سيكون عبارة عن فسيفساء لبنانية، في ذكرى مئوية إعلان لبنان الكبير، فيها قراءة لجبران خليل جبران (رفيق علي أحمد) ترافقها موسيقى غبريال يارد، بالإضافة إلى مختارات من ريبرتوار الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز في إعداد للأخوين غدي وأسامة الرحباني. وفي لفتة يعتبرها القيمون على الحدث ضرورية لجذب الجيل الشاب، مع حفظ دورٍ للمرأة فيها، ستقدّم الأوركسترا أداء لإحدى الأغاني الشهيرة من ريبرتوار موسيقى الروك، يشارك في تنفيذها رباعي من ثلاثة عازفي غيتار وعازف درامز (شابان وفتاتان)، في حين تتولّى الإنشاد الجماعي في الأمسية عموماً جوقتا «الجامعة الأنطونية» و«جامعة اللويزة»، بالإضافة إلى جوقة «الصوت العتيق» التي تسهم في الجانب المتعلّق بتاسعة بيتهوفن فقط.
ستطول أمسية «صوت الصمود» لنحو ساعة من الموسيقى التي تأتينا من قلعة بعلبك مباشرةً على الهواء. وإلى الشق الفني الموسيقي، تضاف مؤثرات بصرية مصممة لمرافقة المقطوعات والمحطات التي سيتخللها البرنامج، ما يساعد ربما على التلقّي وشدّ الاهتمام نحو الشاشة في هذه التجربة الجديدة… لكن من تطمره الهموم، هل يبقى قادراً على الاستمتاع بالجمال؟