في تغريدة لها على تويتر، أعلنت الفنانة نيكا دابروفسكي قبل يومين عن وفاة زوجها الأنثروبولوجي والكاتب والناشط السياسي الفوضوي الأميركي البروفيسور ديفيد غرايبر (1961 ــــ 2020) في المستشفى في مدينة البندقيّة الإيطاليّة. وبينما لم يُعلن سبب وفاة البروفيسور بالتحديد، قال رفاق له بأنّه بدا متعباً أثناء ظهوره الأخير على يوتيوب قبلها بأسبوع، واشتكى من شعورٍ بالإعياء. يعدّ غرايبر من أهم نجوم اليسار الفوضوي النخبوي الطابع في الولايات المتحدّة، وواحداً من قيادات حراك «احتلوا وول ستريت» (2011) الشهير وأهم منظّريه الفكريين. نُسب إليه إطلاق شعار «نحن الـ 99%» في أثناء هذا الحراك، إلا أنّ هذا غير صحيح، إذ أن مفهوم الـ 99% من أفكار الاقتصادي الليبرالي جوزيف ستيغليتس والمفكرين القريبين من الحزب الاشتراكي الفرنسي مثل توماس بيكتي. وضع ديفيد غرايبر مجموعة من الكتب التي رافقها نجاح تجاريّ ملحوظ وحظيت بإقبال واسع في أجواء الشبان الغربيين المحلّقين في مناخات يسار البورجوازيّة الأميركيّة. كتب انتقد فيها أوجهاً اقتصاديّة واجتماعيّة عدّة للرأسماليّة المعاصرة، إضافة إلى رسالته لنيل درجة الدكتوراه من «جامعة شيكاغو»، وكانت دراسة ميدانية أثنوغرافيّة عن السحر والعبوديّة والسياسة في مجتمع بدائيّ في جزيرة مدغشقر، إلى جانب عشرات المقالات والحوارات والمحاضرات العامة والجامعيّة. وهناك كتاب له بالتعاون مع ديفيد وينغرو سيصدر في عام 2021 عنوانه «فجر كل شيء: تاريخ جديد للبشريّة». التحق في عام 2000 بـ «جامعة ييل» المرموقة في الولايات المتحدة أستاذاً لعدة سنوات قبل أن تمتنع الجامعة عن التجديد له في عام 2005 ربّما لأسباب تتعلّق بأنشطته الفوضويّة، وهو ما دفعه للانتقال لاحقاً إلى بريطانيا. وكان يشغل - حين وفاته - منصب محاضر في «كليّة لندن للاقتصاد». وعلى الرّغم من أنّه لم يضع نظريّة سياسيّة متكاملة، إلا أنّ أنشطته العامّة وأفكاره حول طرائق مواجهة هيمنة النخبة وكتبه المتلاحقة خلقت له نوعاً من هالة معلّم ذي طريقة لها أتباع ومريدون عرفت مجازاً بـ «الغرايبريّة» تعرّض بسببها لانتقادات لاذعة من النقّاد الماركسيين – اللينينيين، بينما رحبّ بها الإعلام البرجوازي والتيارات الفوضويّة في اليسار الغربي كما الاتجاهات الديمقراطيّة – الاجتماعية. ومع أنّ منطلقاته الفكريّة فوضويّة معادية – نظريّاً – لهياكل القوّة والسّلطة في المجتمع، إلا أنّه – وهو اليهودي الجذور - أثار ضجّة في فضاء السياسة في المملكة المتحدة عندما دعم بشدّة سياسات جيريمي كوربن – الرئيس السابق لحزب العمّال البريطاني ـ في حملته للوصول إلى منصب رئيس الوزراء، ودافع عنه بحرارة ضد محاولات الإساءة إليه من خلال وصمه بتهمة معاداة الساميّة، معتبراً ذلك توظيفاً ذا أغراض مشبوهة موجهاً ضدّ خصم في السياسة يريد توزيعاً أكثر عدالة للموارد، واصفاً ذلك التّوظيف المسيّس بالإساءة البالغة لليهود قبل غيرهم، ولا-ساميّة موجهة ضدّهم، وأنّه تسبب له شخصياً بالخوف من إمكان استهدافه للمرة الأولى في حياته بسبب هويته اليهوديّة.
في كتابه «الدّيون: الخمسة آلاف سنة الأولى» (2011)، استكشف غرايبر التعريفات المتغيّرة للاستدانة وأشكالها عبر الحقب التاريخيّة، كما تأثيراتها البالغة السوء على المجتمعات والأفراد، داعياً إلى ربع قرن خال من الديون، وإعفاء جيل كامل من استحقاقاتها. وفي «يوتوبيا قواعد العمل» (2015)، انتقد البيروقراطيّة بلا هوادة من دون اقتصارها على شكلها التقليدي المرتبط في الأذهان بالعمل الحكومي العام، بل أيضاً كما هي في تطبيقاتها الأخرى الواسعة الانتشار عبر منظومات إدارة الأعمال بشركات القطاع الخاص وتعاملاتها اليوميّة. أمّا أكثر كتبه شهرةً، فقد كان «وظائف الهراء: نظريّة» (2018) وفيه يرى أن الرأسماليّة المعاصرة احتفظت بمنطق الوظائف التي تمتد لأكثر من 35 ساعة أسبوعيّاً في وقت يمكن فيه بالاستفادة من التكنولوجيا الحصول على ذات الإنتاجية في 15 ساعة أسبوعياً وفق توقّع عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز (1883 -1946) في ثلاثينيات القرن الماضي لشكل الوظائف عند نهاية القرن العشرين. واعتبر التقدّم التكنولوجي وكأنّه تحوّل إلى أداة لقضاء مزيد من الوقت في إنجاز الهراء فحسب، وأن هذه النوعيّة من الوظائف لها تأثير مدمّر على صحة الأفراد النفسيّة والروحيّة، ما يضعف الإنتاجيّة ولا يزيدها فعلياً، مشيراً إلى أن القليل من الوظائف كالتعليم تحتاج بالفعل إلى حضور مطوّل لشخص المعلّم، بينما معظم الوظائف الأخرى يمكن إنجازها في ثلث الوقت الحالي فيما البعض الآخر ليست له حاجة مطلقاً، ولن يفتقدها أحد لو اختفت تماماً من العالم.
حظيت أفكار غرايبر المسليّة هذه بإعجاب الأجيال البرجوازيّة الجديدة المائلة إلى تقبل الانتقادات الشكليّة لانعدام العدالة في توزيع الموارد من دون الحاجة للالتزام ببدائل عمليّة يمكن تنفيذها بالفعل لكسر هيمنة رأس المال، ولا سيّما بعدما بزغ نجمه كزعيم شاب في ميادين الاحتجاج اليساري على تلاوينها مناخيّة واقتصاديّة وجندريّة، وتحديداً حراك «احتلوا وول ستريت» والمحاولة الفاشلة للسيطرة على «متنزه زوكوتي» في نطاق حيّ المال والأعمال في نيويورك. ولا شكّ في أنه بحكم موقعه الطبقي – الاجتماعي – العرقيّ في جوار النخبة المهيمنة في العالم الأنغلوفوني، وأفكاره اللاعنفيّة الطابع، ومنصبه الجامعي الرفيع في جامعات النخبة الأنغلوفونيّة، وإرثه العائلي اليهودي - ذي الهوى اليساري - أصبح راديكالياً مقبولاً من قبل المنظومة الغربيّة، وشُرِّعت له الأبواب للنشر والخطابة والتدريس والإعلام اليمينيّ قبل إعلام اليسار – الورديّ -. لكن هذه الشهرة والأضواء لم تخف سذاجة ظاهرة، وخفّة في الطرح، وتناقضاً يكاد يكون جذريّاً مع أسس الفكر الماركسيّ. فتصورات غرايبر في الخلاصة الكليّة ليست نقيضاً تاماً للنظام الرأسمالي، ولا تكاد تزيد عن كونها محاولات للتعايش معه – عبر توهّم إمكان تجاهله فوضوياً - أو حتى تقويته من خلال تعظيم الإنتاجيّة عبر أدوات التكنولوجيا الحديثة ولو على حساب التّوظيف.
إلا أن «الغرايبريّة» تعرّت بالفعل كأوهام نظريّة محضة عندما حظيت بفرصة الممارسة على الأرض في عام 2011 أثناء حراك «احتلوا وول ستريت»، ولاحقاً في تموضعاته السياسية التي لا تبتعد كثيراً عن مواقف الحكومات الغربيّة ومعظم تيارات اليسار الغربي المهادن في ما يتعلّق بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، أو الكيان الكردي المشبوه في شمال سوريّا.
كتبه انتقدت أوجهاً اقتصاديّة واجتماعيّة عدّة للرأسماليّة المعاصرة


فنظريته بشأن «الفعل المباشر» التي كانت أيديولوجيا حراك «احتلوا وول ستريت» قامت على أساس عدم الاعتراف بهيكليّة القوّة القائمة في المجتمع وتجاهل وجودها والتصرّف كما لو أن المواطنين أحرار بالفعل، وبناء هيكليّات بديلة موازية تنفي الحاجة إلى مؤسسات السلطة ولا تتحداها – بالإضراب أو العنف مثلاً -، لتتآكل على إثرها السّلطة من الدّاخل، وتصبح مجرّد قشرة رقيقة غير قادرة على التأثير الفعّال. لكن الحقيقة أن محاولة السيطرة على «متنزه زوكوتي» في وول ستريت انتهت إلى فشل ذريع رغم كل الإلهام الذي منحته للجيل الشاب ضحيّة صدمة الأزمة الماليّة العالميّة في عام 2008. فلا صناعة المال والمضاربات في وول ستريت تأثّرت، ولم يحتل أحد الحيّ نفسه، وحتى «منتزه زوكوتي» تمّ «احتلاله» بعد موافقة عمدة مدينة نيويورك، وأخلي لاحقاً فور سحب تلك الموافقة. وفي النهاية كان الحراك بمجموعه تسلية مرهقة للجميع، من دون أثر فعلي يُذكر على الوضع القائم. ولم ينجح في بلورة منهجيّة لتحديد غايات الحراك العمليّة أو صياغة خطوط عريضة لكيفيّة مواجهة المثالب الاجتماعية والاقتصادية المرافقة للنظام الرأسمالي أو كيفيّة مواجهة العنف المفرط فيما لو قرّرت الأجهزة الأمنيّة إنهاء الحالة «الزوكوتيّة» بمحض القوّة – كما هو أساس التعامل مع الاحتجاجات في معظم أنظمة العالم من فرنسا إلى الصومال مروراً بـ «إسرائيل». والأخيرة بالذات حظيت بالتقريع من غرايبر لسلوكها العدواني ضد الفلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة من دون المساس بالطبع بحقّها المزعوم في استمرارية الكيان العنصريّ على الأراضي المحتلّة عام 1948، وهو موقف رماديّ يليق بسياسيّ يمينيّ رديء الأيديولوجيا مثل توني بلير لا بأستاذ أنثروبولوجيا يجلس في مقدّم صفوف اليسار.
لكنّ السقوط النهائيّ لـ «الغرايبريّة» كان في انحياز سيّدها للكيان العرقيّ الكردي المشبوه الذي أنشأته المخابرات المركزيّة الأميركيّة في شمال سوريا، ودفاعه المتكرر عنه بوصفه تجربة اجتماعيّة متقدّمة ينبغي للغرب – حكومات وشعوباً - حمايتها ودعم تطوّرها. لقد شهد البروفيسور غرايبر بنفسه سقوط عالمه النظريّ الوهميّ الساذج في «منتزه زوكوتي»، ولو طال به العمر قليلاً، لشهد سقوطه مجدداً في فلسطين وسوريا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا