ربما ارتبطَ إقبالُ الفكر الإيراني المعاصر على الفكر العربي برابطِ مشترك هو الدين الإسلامي الذي كان المحفز الأساس لتبادلِ الثقافة والفكر بين الحضارتينِ بدءاً باللغة وعبرها. غير أنه في مجال الفكر والفلسفة، لا يمكن إنكار اعتماد الفكر الإيراني المعاصر للفكر الغربي الحديث مرجعاً وبناء حقولٍ فلسفيةٍ فوق عمارات المدارس الفلسفية البارزة. ولعلّ تأثّر هذا الفكر لا يختلفُ كثيرَ الاختلاف عن تأثر الفكر العربي الحديث بالفلسفة الغربية، وقد سبقَه إليها بحكم الجغرافيا. فالفلسفة من حيث هي نشاط فكريّ بتعبير روبين كولنجوود تخضعُ تصوّراتُها لمبدأ التداخل بين الفئات، وكذلك القضايا الفلسفية فهي في ذلك بناءٌ تتداخل فيه علاقةُ سلّم الأشكال الفلسفية مع الأنساق، لتشكّلَ منهجاً تتكاملُ فيه الفلسفات زمانياً ومكانياً. بتعبيرٍ آخر، ليس ثمةَ فلسفةٌ منفصلةٌ عن سابقاتها بتعبير كولنجوود الذي انطلقَ في مقاله في المنهج من سؤال «ما هو المنهج؟». وهكذا رأينا في كل مراحل الفكر الإنساني وجوداً نسبياً للفلسفات اليونانية بنيت عليه الأفاهيم الحديثةُ، فكانت المنعطفاتُ الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث من ثورة كانط الكوبرنيقية وصولاً إلى منعطف دائرة فيينا اللغوي، وما بعد ذلك وصولاً إلى الفكر المعاصر.والحديث عن تأثير الإسلام بالغ الأهمية، إذ نرى ما نراه من تأثرٍ كبيرٍ للفكر العربي بفلسفات وأفكار فلاسفة الدين في إيران الحديثة. فلا يمكن الحديث عن العرفان والتصوف وحتى فلسفة الدين بالرجوع حصراً إلى الفلسفة الغربية، هيغل وكانط وإلى رموز المدرسة الرومانسية كيركغارد وبرغسون وشلايرماخر وسواهم. وإنما لا بدّ من الرجوع إلى المقاربة الإيرانية لهذا النوع من الفلسفة. وهذا ما قام به عبد الجبار الرفاعي في مؤلَّفه «في فلسفة الدين» حيث جمع أبحاثاً لرموز الفكر الإيراني المعاصر، سروش وملكيان وكديور وبورمحمدي وغيرهم إلى جانب مقالات الغرب ونقدها في ما يتعلق بالتجربة الدينية والإيمانية، من هيدغر وبرغسون وكيركغارد وشلايرماخر وسواهم.
وفي هذا الخصوص رأينا عدداً هائلاً من علماء الدين وطلاب الحوزات الدينية الإسلامية في العالم العربي يقبلون بنهمٍ على دراسة فلسفات الدين الحديثة في الفكر الإيراني المعاصر بغيةَ الانفتاح أكثر على فهم هذا العقل الذي تؤثرُ في بنيتِه اعتباراتٌ متداخلة، هي الدين الإسلامي والعرفان واللغة المغايرة للغة القرآن. وربما كان الأخذ العربي من الفكر الإيراني يتركّزُ في هذا الموضع دونَ سواه، فالجوانب الأخرى من التفكير الإنساني يتمّ الانفتاح عليها وتبادلها مع الفلسفات الغربية التي تنوّعت وتعددت بتعدد الأنساق التاريخية والبنى الفكرية والظروف السوسيولوجية وتحولات الحداثة وما بعد الحداثة التي شكّلت انفجاراً في مضمار الحياة الإنسانية بتعبير محمد شبستري. غير أنّ الفلسفة الغربية كانت بانتظار ما يكمّلها ربما في ما يتعلق بفلسفة الدين، والتيارات الوجودية الرومانسية في الفلسفات اللاهوتية كان ينبغي إتمامُ نتاجاتها وعدم الاكتفاء بالكليات والتوقف عند مسميات الغرب لفكرة الإله، بل اقتضى ظمأُ الإنسان الأنطولوجي وحاجتُه إلى فهم عالمِه الواقعي وتاريخ دينِه أن ينفتحَ على معاني التجسّد وتجربة الإيمان المسيحي والمسلم على حدٍّ سواء للإحاطة بجميع جوانب الإعجاز والوحي وفكرة القيامة والثواب والعقاب وسواها من قضايا فلسفة الدين. ورأينا في هذا الصدد إقبالاً إيرانياً واسعاً على التجربة المسيحية من قبيل ما قدمته الإيرانية نعيمة بور محمدي حول فلسفة سورين كيركغارد، ودراسة الشبستري للتراث المسيحي وصولاً إلى الإسلام والتعاطي مع مقتضيات الحداثة. فكانت القراءة الفارسية للّاهوت مغايرةً لقراءة الغرب نفسه ومتفردةً في قراءاتها في الكثير من الأحيان، ما دعا المفكّر العربي إلى الاستعانة بالتجارب الفارسية واعتبارها مراجعَ لدراساته في فلسفة الدين والنظرة إلى الحداثة.
بدورِه، يرى الإيراني أنّ ضرورة الجوار تقتضي إلى جانب الدين، انفتاحه على الفكر العربي، ذلك أنّ التحديات التي تواجهها إيران تواجهها المنطقة والعكس صحيح. فراح يبحثُ في مكامن الإخفاق العربي في مواجهة بعض التحديات في العالم الإسلامي. من هنا، كانت ضرورة قراءة إيران لتجربة اليمن والبحرين وليبيا على وجه الخصوص، وعدم اكتفاء مفكّريها بالفلسفات النظرية الكانطية والهيغلية والبحث في الكليات. رغم أنّ هناك إقراراً من قبل المفكرين الإيرانيين بالتقصير في مكانٍ ما، في الإقبال على المعرفة العلمية والعميقة للعالم العربي، فكرياً ثقافياً واجتماعياً، فالمشهد الإسلامي يدينُ للعالم العربي بالكثير، وما يتلقّاه المسلمون من الإيرانيين إنما يرتبطُ بتلقي العرب منهم وتصورهم عن الفكر الإيراني.
في محاولةٍ لتفكيك عِلل الإخفاق، الذي رأى بعضُ المفكرين الإيرانيين بأنّ أسبابَه تعود بشكلٍ أساسٍ إلى الفرقة الحاصلة بين العرب والمسلمين في فهم الحداثة ونقد السلوك المعرفي المتعلّق بها، ذهبَ الإيراني إلى التقرّب أكثر من العقل العربي بمقتضى إلحاح الظروف المأزومة في المنطقة وعبر التاريخ الحديث. فلقد كان الفكر العربي غالباً بموقع «المنفعل» أو «المتلقّي» أمام قضايا العولمة مثلاً وهو يفتقدُ لإنتاج الأدبيات الواقعية والنقدية، رغم علمِه بسبُلِ الحلّ. والحديث عن سبل الحلّ في أيّ علمٍ من العلوم يقتضي البحث في ثلاث ركائز تنبني عليها القضية وفرضياتها؛ المنهج، الموضوع والمصادر. هذه الركائز الثلاث تكملُ بعضَها البعض ولا انفصالَ بين عُراها، فالاستدلال يكونُ صحيحاً من خلال ملائمة هذه الركائز واتساقِها مع بعضها البعض، وإلا فإن النتيجة ستكون خلط المفاهيم. وهذا ما يلاحظ في آثار محمد عابد الجابري ومحمد أركون، فإنّ اختلافَ رأيَي هذين المفكّرين حول مفهوم العولمة يعودُ إلى اختلاف مناهجهما، إذ إن وصفَ الموضوع ضرورةٌ لإيجاد الحلول، فبدون معرفة الموضوع لا سبيلَ إلى معرفة منهجِ تحليله. ونرى بذلك أن اهتمام المفكرين والأكاديميين المعاصرين في إيران ينصبّ على تعريفات الفكر العربي لظاهرة العولمة وقضاياه الثقافية وحلوله لمواجهة العولمة، فذهب البعض لإيجاد المقارنة بين مذاهب المفكرين الإيرانيين والعرب.
ويرى المفكر الإيراني عموماً أنّ العقلَ العربي ينظرُ إلى العولمة كنتاجِ غربيٍّ تلعب دور البطولة فيه المؤسسات الدولية والحكومات والشركات المتعددة الجنسيات، وفي معظم الحالات يكون العربُ في موضع «المنفعل» والغرب هو «الفاعل» في العقل العربي أو الفكر العربي المعاصر. مثالُ ذلك ردود الفعل العربية أمام نظرية «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما و«صراع الحضارات» لصاموئيل هانتنغتون... هذه الردود التي لم تُضِف الكثير إلى المنظومة الفكرية العربية الإسلامية. هنا تجدر الإشارة إلى دعوة مفكّرين عرب من أمثال السيد محمد حسين فضل الله، عبد الوهاب المسيري ويوسف قرضاوي، إلى الأخذ من العولمة ما هو إيجابيّ والتصدّي لسلبيّاتها على المستوى الثقافي، حيث يرون بأنّ بعض الحكومات العربية ما هي إلّا أدوات لظاهرة العولمة حيث تعدّ الحكومات الاستبدادية العربية أكثر أماناً بالنسبة إلى الغرب من سلطة الدين في المنطقة. كذلك ذهبَ القوميون والماركسيون العرب إلى نقد العولمة إما لحفظ الهوية أو لمواجهة الإمبريالية والثقافة الرأسمالية.
ثمة نظرةٌ إلى أنّ الغيابَ العربي في الاقتصاد العالمي والتبادل التجاري غيرُ محسوسٍ به، ويعود السبب في ذلك إلى عدم الاعتماد على الذات لدى هذه الدول بالدرجة الأولى. مما يرجعُ بذلك إلى نظرة الفكر العربي السلبية إلى العولمة وتقبّل ثمارها من تحكّم وتغييرٍ للقيم العربيّة، إضافةً إلى نشر ثقافة التطبيع. المسألة المهمّة في العالم العربي هي «الاستقلال في البرامج والأهداف» وليس «الاستقلال في الآليات والإنتاج». فنرى تأثراً كبيراً للفكر العربي بالفلسفات المادية وما بعد الحداثة والنيوليبرالية والرأسمالية الغربية.
واجه فلاسفة المغرب العربي الفلسفات المادية بالرجوع إلى «العالم الإسلامي الشمولي» بديلاً عن العولمة. يتبيّن هنا أنّ ثمة رؤية واضحة المعالم لكيفية مواجهة العولمة في العالم العربي، غير أنّ الإشكالية تكمن في عرض الرؤى الإسلامية المتعالية بطريقةٍ قابلةٍ للتنفيذ في حياة الاجتماع. ولعلّ مقارباتٍ وافية حاولت التصدّي للنظرة السلبية لموقف العرب المتلقي الساكن من الحداثة الغربية، فقد قدّم عبد الإله بلقزيز نظريةً متجددةً ذهب فيها إلى أنّ العرب وإن أخذوا من الحداثة الغربية وكانت بالنسبة إليهم مرجعاً ومصدراً أولياً، غير أنهم أسقطَوا هذه الحداثة في اجتماعهم ونسقهم التاريخي ومقتضيات لحظتِهم، تماماً مثلما تبدّلت الماركسية حين جيءَ بها من أوروبا الغربية إلى الصين والشرق.
يتحدّث محمد خاتمي عن أطروحتَين تفسّران نمط علاقتنا بالغرب، الأولى حالة الضغينة والحقد على الغرب، والثانية حالة الهيام والانبهار بالغرب، غير أنه لا يذهبُ كثيراً إلى الحديث عن تفاوتٍ بين الفكر الفارسي والعربي على هذا الصعيد، وإنما ترتكز دراسته إلى النظرة إلى الإسلام وموقف المسلمين من الحداثة ومن محمولات الثقافة الغربية عموماً.
غير أنّ دراسة الجابري حول بنية العقل العربي قد تكون خيرَ مصداقٍ عن رؤية المفكر العربي لنفسه وللآخر، فتتجلى السلطات الثلاث التي لم يتمكن الجابري نفسه، رغم كونه ليبرالياً عربياً، من الانفصال عنها في خطابه، والتي جسدت انتماءاته القومية والإسلامية.
لعل الكثير من المفكرين العربَ توصّلوا إلى مفهوم «العدو المشترك»، غير أنّ أطروحاتهم في مواجهة هذا العدو اختلفت باختلاف البنى الفكرية لكلٍّ منهم ورؤاه المعرفية الخاصة. وذاك التباين كان واضحاً بين السيد محمد حسين فضل الله، والجابري وأركون ومحمد باقر الصدر وحسن حنفي ونصر حامد أبوزيد، وكثيرين ممن واجهوا خلال مسيرتهم في النقد الذاتي، دوغمائيةً واضحة في الفكر الأصولي وعنفاً فكرياً شرساً.
ويذكر سيد محمد آل مهدي مترجم آثار محمد عابد الجابري إلى الفارسية في حوارٍ له مع إحدى الصحف الإيرانية، أنه رغم النقد الذي تناول الجابري به فلسفة الفارابي وابن سينا بسبب غنوصيتهما الأفلاطونية، وترجيحه الفلسفات المغربية الأرسطية، غير أنّ الفكر الإيراني يرحب بهذا النوع من القراءات النقدية، ويولي دراسة الجابري اهتماماً خاصاً في قراءته للعقل العربي ونقد العقل العربي والإسلامي.
لعلّ الحلّ للأزمة العربي تكمنُ في معرفة الذات قبل معرفة الآخر، أي المعرفة الشيعية للآخر السني والمعرفة السنية للآخر الشيعي، من أجل توحيد صفوف المسلمين فترتفع دول المنطقة عن مستوى خطاب التفرقة والتشتت، وتمتلك بيدها أدوات مواجهة الغزو الثقافي السلبي الذي يترافق مع نتاجات الحداثة؛ المعرفة ثم إصدار الأحكام. فنحن أمام «معرفةٍ كاذبة لأحدِنا الآخر» لم تلبث تراوح مكانَها بين التكفير والتكذيب، مما يعيقُ رؤيتَنا لأنفسنا جزءاً لا يتجزأ من هذه الحداثة العالمية، سواءً بالتأثير أو بالتأثر.