لا يُسقِط ألكسندر بوليكيفيتش جسداً مكتملاً على عرضه الجديد «عليهم». يدعونا الراقص والمصمّم اللبناني إلى مرافقته بين المشقّات الفردية الجماعيّة على مدى 40 دقيقة هي مدّة العرض. لعلّ التساؤل الأساسي الذي يحضرنا بعد قراءة نبذة «عليهم»، وانطلاقاً من أعماله السابقة، هي كيف للرقص البلدي أن يرثي ويجاهر بأثقاله؟ مع بدء العرض الذي ينطلق الليلة ويستمر حتى 16 كانون الأوّل (ديسمبر)، ستغيب كلّ تلك القصص والسرديات المرفقة به. أمامنا الجسد وحده، في قبو كنيسة «مار يوسف» (مونو – بيروت)، تحت إضاءة خافتة في فضاء تتوسّطه علبة خشبيّة تختزن الموت. الجسد بهيأته الأولى يتخلّى عن كلّ كساء، منها بدلة الرقص التي اعتاد أن يقدّم فيها عروضه. لا يترك لجسده سوى تلك الندوب الغائرة التي تتجلّى في حركته. وما يصنع الإيقاع الخافت والحميمي للعمل، هو تلك الفرصة التي يمنحها للمشاهد كما لو أنه يتلصّص عليه في كواليس العرض، أو في غرفة مغلقة يتدرّب فيها بكامل هشاشته للعثور على حركته مجدّداً.
خلافاً لاكتمال حركة الراقص المتوقّعة على المسرح، يعلن بوليكيفيتش عجزه منذ البداية. يضع جسده وذاكرته أمام تحدّ لنقل ما يتجاوز حدوده، ليصل إلى المدى الأقصى للتعبير كما في الانتفاضة اللبنانية التي ابتكرت فيها الأجساد مفهوماً تشاركياً في الفضاء العام من خلال الرقص. ثمّة مفاهيم كثيرة تتعلّق بذاكرة الجسد الشاهد، وموقعه أمام هول الأحداث، وتنقّله بين الضحية (ناتج من تجربته مع عنف القوى الأمنية خلال التظاهرات)، والاحتضار (موت والده). أما خيارات العرض المتقشّفة بتخلّيه عن بذلة الرقص، والموسيقى، وحتى فضاء العرض أي المسرح، فتستحضر لحظة الخسارة والتجرّد الكبيرين من جرّاء انفجار مرفأ بيروت.

من العرض

لطالما كان التوجّه الفني سياسياً في عروض بوليكيفيتش بالرقص البلدي في عروض «محاولة أولى» (2009)، و«تجوال» (2011)، و«إلغاء» (2013)، و«بلدي يا واد» (2015). تخلّى عن تسمية الرقص الشرقي الاستعمارية، معتمداً الرقص البلدي كخيار جمالي ووجودي للتعبير عن نفسه. أما طرحه السياسي للجسد، فقد تجلّى واضحاً في أعمال سخّر فيها تراثاً تقليدياً وشعبياً طويلاً في المنطقة لينكأ مواضيع سياسية واجتماعية وجندرية مثل التحرش الجنسي في تظاهرات مصر، وعروض أخرى جعل فيها كلمات الشارع البذيئة إيقاعات أخرى رقص عليها. ذوّب من خلاله الحواجز الجندرية، واستسلم لجمالية حركاته وحدها عندما استعاد أجواء الكباريهات المصرية في آخر أعماله.
وإن كان الراقص يقدّم عرضه في مدفن سابق تابع للكنيسة، فإن هذا الفضاء المتقشّف يحمل معه السياقات الاجتماعية والسياسية والسلطوية نفسها التي واجهها في أعماله. سلطات كانت تسوّر الأجساد في حضورها وتنقّلها في المجتمع في السابق، غير أنها أصابته مباشرة هذه المرّة في العاصمة اللبنانية تحديداً التي فقدت المئات من أبنائها الذين لا تزال صور أجسادهم المدمّاة حاضرة.
يضع بوليكيفيتش كلّ هذا في تجربة مشحونة ومكثّفة شعورياً وحركياً، تطوي بشفافية أي مسافة بين المشاهد والراقص الذي يكشف انكساراته، وتعذّر حركته ضمن قالب الرقص البلدي. بوليكيفيتش الذي يظهر بشخصيته بداية العرض، يعلن بتجرّده من ملابسه العودة إلى لحظة الصفر تلك. يدخل بصخرة على كتفيه. مع هذا يواصل التقدّم. هذه حالة واحدة فحسب من الحالات التي يعبر بينها، ويترجمها بمشاهد ووضعيات مختلفة. دندنة تشبه الأنين يطلقها الراقص بتقطّع لموسيقى كرنفال الصباح للمؤلف البرازيلي لويز بونفا. تتوالى الحركات بين ارتفاع وسقوط، وفشلها المتكرر في بلوغ مداها الأقصى. اليدان تقومان بتعاويذ لإيقاظ الجسد الغارق. داخل العلبة الخشبية، يتقمّص بوليكيفيتش الجسد المحتضر. يقف بمواجهة نفسه في فضاء خانق. وهو المساحة الأكثر أماناً التي يستسلم فيها للأرض.
مقاربة جديدة للرقص البلدي يمكن أن نصفها بالرقص البلدي الرثائي

يتحوّل اللحن إلى لحن جنائزي، يتلعثم معه الجسد. سنرى كيف تبدأ الحركة بالتسرّب من أصابع اليدين وحركة الخصر، ودورات الدراويش المتتالية التي تشحن الجسد وتنفض عنه أحماله، وترفعه مجدّداً. في العمل ثمّة نقطة تحوّل تنبثق من التدفّق البشري في 17 تشرين. بقناعه الذي واجه به الغاز المسيّل للدموع، ينتصب الجسد أخيراً، متقمصاً إيقاع الشارع، والأجساد الصاخبة. يطوّع حركاته لنقل التعبيرات العفوية العامّة من هزّة الأكتاف إلى حركات مستوحاة من الدبكة في ضربات القدم على خشبة الموت التي يتمكّن من ترويضها أخيراً.
يقدّم الفنان اللبناني مقاربة جديدة للرقص البلدي يمكن أن نصفها بالرقص البلدي الرثائي، من دون تفجّع. لجأ إلى خيارات صعبة بتطويع هذه الرقصة التي تدعو إلى البهجة في العادة، للتعبير عن آلامه. وبتخليه عن عناصر كثيرة، منها الفرقة الموسيقية والثياب وغيرهما... ترك المساحة للجسد وحده ضمن مقاربة شفّافة وعضوية اعتمدها في تصميم الرقص والحركة.

* «عليهم» لألكسندر بوليكيفيتش: 20:00 مساء اليوم حتى 16 كانون الأوّل (ديسمبر) _ قبو كنيسة «القديس مار يوسف» (مونو – بيروت). جميع العروض مجانية. للاستعلام: 76/907348



في صلب السياسة
ما الوعي السياسي الجديد الذي أضافته الأحداث الأخيرة في البلاد إلى جسد بوليكيفيتش؟ رغم أن الرقص البلدي منذ البداية كان بمثابة توجّه سياسي، فقد تنبّه خلال الانتفاضة اللبنانية إلى «أهمية أجسادنا ومدى قدرتها على تهديد السلطة». ليس هذا مجازاً لغوياً، إذ «كانت أجسادنا أهدافاً مباشرة للقوى الأمنية وعنفها». لا يقتصر هذا بالنسبة إلى بوليكيفيتش على الضرب المبرح الذي تعرض له من قبل مجموعة عناصر من القوى الأمنية في ليلة المصارف فحسب. صحيح أنه شعر حينها بتهديد مباشر لأثمن ما يملكه وهو جسده، إلا «أنني شعرت بأهمية أجسادنا لمواجهة السلطة، خصوصاً عندما صوّبت رصاصاتها المطاطية مباشرة إلى الأجساد والعيون».
في العرض الحالي ينتفض الجسد على نفسه. لكن هذه المقاومة انتقلت إلى الخيارات الفنية الأخرى؛ إذ تخلّى هذه المرّة عن الفضاء المسرحي الكلاسيكي، وقرّر الرقص في قبو الكنيسة الذي كان مدفناً في السابق. لم يبقَ لبوليكيفيتش سوى الجسد، لهذا تركه وحده في العرض، وهو تحدّ حقيقي، مع غياب عناصر الموسيقى والأزياء... صحيح أن هذه الخيارات الجمالية المقصودة خدمت العرض، إلا أنها أيضاً فرضت نفسها على الراقص في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة. تقدّم بوليكيفيتش إلى منح الفنانين اللبنانيين التي قدّمتها المؤسسات الفنية الثقافية في العالم العربي، لكنه لم يحصل على أيّ منها. غير أنه أصرّ على إقامة عرضه رغم كلّ الظروف، على أن يكون حضوره مجّانياً للجمهور: «طالما أني أملك جسدي فلست بحاجة إلى أي شيء آخر».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا