ليس سهلاً اختصار سيرة فنان كبير بحجم الياس الرحباني، وليس سهلاً استيعاب هذه الخسارة الكبيرة، التي حلّت مع بداية العام الذي كنّا نتمناه مختلفاً عن سابقه، بأحداثه ومصائبه وكوارثه المتشعّبة. لكنه القدر، وهكذا هي الحياة. يمرّ عليها بعض الأشخاص، فيتحدّونها، ويؤكّدون الحضور فيها، ويثبّـتون أنفسهم في ذاكرة التاريخ، كأنهم أقوى من الغياب، حتى وإن غابوا بالجسد. الياس الرحباني، هو واحد من قلائل صنعوا مساحاتهم الواسعة في عالم لا يسهل فيه البقاء طويلاً. الياس الرحباني، هو ثالث «الثالوث الرحباني المقدّس» (عاصي ومنصور والياس الرحباني). كان ثالثهم في مكان، وكان وحده في مكانه الآخر. عندما اقتنع عاصي ومنصور بأن الأخ الأصغر نضج وبدأ يثمر، سلّموه مهمة أن يشاركهما حكم دولة كانت أكبر بكثير من مكان وزمان. وعندما أزهر الياس، كانت عبقريته المتجدّدة، والواسعة بثقافتها، تجعله يعلّم في مكانه وتكون له مكانته. تحرّره من دولة عاصي ومنصور، سمح له بأن يحلّق خارج السرب، وأن يكون هو وحده حالة لا يسعها وعاء ولا تحكمها حدود. عندما غرّد الياس بموسيقاه، أتى تلك الواحة الطربية المقيّدة بالمقام، والطرب والتراث، فأخرج من رحيق موهبته نغمة أكثر تحرّراً، وأكثر حيوية. لم تكن أغاني الياس كما غيرها من أغاني ذاك الزمن. هو «شرّق الغربي، وغرّب الشرقي». وابتكر بنفسه إيقاعات أغانيه وموسيقاه، حتى حسبناه سافر وخرج ومعه كل ما وضعه الأوائل، ليضع بنفسه خطّاً أوّل جديداً. كانت أغنيته من عالم آخر، تحدّى فيها العالم. ثقافة الياس الموسيقية أكثر شمولية، وأكثر عالمية. مرّات ومرّات، حقق انتصارات موسيقية كبيرة في جميع أنحاء العالم. قد يكون ذِكر أعماله أمراً مكرّراً، وهي التي تملأ الآذان العربية والغربية، لكن من المهم جداً أن نذكر تلك المرحلة التي تعرّض فيها لملامة، بعدما شارك في مهرجان غنائي أوروبي للأغنية العالمية، وعاد منه بجائزة «حرزانة»، تفوّق بها على أكثر من 120 دولة مشاركة. يومها، انتزع المرتبة الأولى، ليعود بها فخوراً متباهياً، فينكّد عليه البعض ويقول بأنه شارك في مباراة عالمية، اشترك فيها العدو الإسرائيلي. أذكر أني اتصلت به لأستوضح الأمر، فقال: «وصلت، ولم أكن أعرف كل المشاركين ومن أي دول أتوا، لكني لحظة إعلان النتائج، كنت أمام أمر من اثنين: إما أن أنسحب وأترك المرتبة الأولى لمشترك آخر، وإما أن أقبل وأسجّل للبنان فوزاً عالمياً على العدو الإسرائيلي، وأنا قرّرت أن أسجل الفوز العربي الأوّل على عدو طالما كان يتمنى لنا أن نبقى في الصفوف الخلفية. وقرّرت بلحظتها أني سأفوز، وأني سأكون أول عربي يسجّل هذا الفوز. سجّل عندك وقل لمن يهمه الأمر إن الياس الرحباني سجّل أوّل فوز عربي على العدو الإسرائيلي». لست أدري كيف أقنعني بوجهة نظره، لكني شعرت بإحساسه ومشاعره وهو يتحدّث عن هذا الأمر بكل صدق. الياس الرحباني، هو الموسيقي العربي الوحيد، الذي نافس موسيقى كبار الموسيقيين العالميين، وفي وقت كانت فيه موسيقى «قصة حب» لفرانسيس لاي تجعل الفيلم الرومانسي الشهير أسطورة سينمائية، وتسيطر على أسماع العالم، وفي وقت كانت فيه موسيقى فيلم «العرّاب» لنينو روتا تغزو كما الفيلم العالم بشهرة لا حدود لها. أطلّ الياس الرحباني بموسيقى فيلم «حبيبتي» من بطولة فاتن حمامة، ووضع اسمه عالمياً كمؤلّف موسيقي الى جانب هذه الأسماء الكبيرة. ثم تابع يؤلّف ويضع موسيقى تصويرية، تحقق نجاحاً وتنتشل فيلماً مثل «دمي دموعي وابتسامتي»، فتضاعف نجاح الفيلم وتألّق نجومه. ليس سهلاً أن تجد فيلماً تصبح موسيقاه التصويرية سبباً أساسياً لنجاحه وشهرته.
عندما قرّرت منظمة «الفرنكوفونية ــــ الدول الناطقة بالفرنسية» أن يكون لها نشيدها الخاص، وقع الاختيار على الياس الرحباني ليتولّى هذه المهمة الموسيقية، ويومها كرّمه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وهو الذي كان يقدّره يوم كان عمدة باريس، ويوم كان رئيس الحكومة الفرنسية، وعندما صار رئيساً لفرنسا.
في رصيد الياس الرحباني آلاف الأغاني الشهيرة جداً، بالفرنسية والإنكليزية الى جانب العربية، وقد تجاوزت الـ 2500. لكن ما لا يعرفه بعضهم أن لالياس الرحباني مئات القصائد والأغاني التي لحّنها وسجّلها لبعض أمراء ومشايخ دول الخليج، وتحديداً الشعراء منهم. كان يُسمعنا هذه الأعمال المسجّلة، التي لا يرغب أصحابها بنشرها، إنما كانوا فقط يريدون أن تخلّدها موسيقى الياس الرحباني.
ثقافة الياس الرحباني الموسيقية كانت أكثر أكاديمية من عاصي ومنصور، فقد ملأ الياس فراغاً ربما كان موجوداً في مكان ما في سيرة الأخوين الكبيرين، وهما تعاملا مع الموسيقى في بداياتهما من طاقة الموهبة والإبداع الغزير جداً، والأكاديمي قليلاً. هنا، كان الياس يملأ الفجوة مهما كانت صغيرة أو بسيطة.
وضع بصمته الموسيقية على فيلم «حبيبتي» من بطولة فاتن حمامة


لم يكن الياس الرحباني تابعاً مكمّلاً لعاصي ومنصور إلا نادراً وحسب الطلب، فهو كان منفرداً متفرّداً في أغلب أعماله. وإن كان شريكهما أحياناً، إلا أنه كانت له خصوصيته الكاملة المكتملة في كل أعماله. مسرحياته، وموسيقاه التصويرية وألحانه وأغانيه، كلها كانت له وحده، مدموغة ببصمته الخاصة جداً. وإذا كنّا نعرف مصطلح «الأغنية الشبابية» في لبنان وفي مصر، فهو صاحب الخطوة الأولى والأساسية لهذا النغمة المتطوّرة والنقلة المتجدّدة في الأغنية والموسيقى. هو «الذي شرّق الغربي، وغرّب الشرقي»، وفتح أفقاً جديداً للموسيقى العربية أن تجد لها مكاناً في جميع أنحاء العالم، غرباً وشرقاً.
هل نسمح لأنفسنا بأن نحكي عن ألحانه للإعلانات التجارية، وأغانيه للشباب الذين صار كل أرشيفهم الغنائي أغنية أو أكثر من الياس الرحباني؟ لا أظنّها مسألة تستحق الذكر، فأمام أعماله الكبيرة، تصبح هذه الأمور من الثانويات والهوامش.
أظن أن الياس الرحباني هو آخر اللبنانيين العرب العالميين. وأظن أنه ترك جمالاً للأذن العالمية، لن تمحوه لا حروب ولا مؤامرات ولا محاولات مسح وتغييب. كل ما يمكن قوله إن كبيراً وجميلاً ورائعاً رحل، وترك لنا الكثير من الجمال والحبّ...

* ناقد فني وأكاديمي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا