حتى لو اختلفنا معه في مفهوم الفنّ. فرغم هذا الاختلاف، وهو جذري بدون شك، من يستطيع أن ينكر أن الراحل كان من أغزر الملحّنين في الوطن العربي وصاحب أنجح التجارب في مجال الأغنية الشعبية الخفيفة؟ المنافسة معه في هذا النمط ضرب جنون. فلحنٌ ضارب لملحِّن في الثمانينيات، مثلاً، يلاقيه عشرة ألحان ناريّة لإلياس الرحباني. فقد احتضن عشرات الأصوات وشكّل حصانها الرابح في سباق الأغاني. إنّه إلياس الرحباني، عرّاب النمط المحيِّر (أي الشعبي الخفيف، وهو ليس خفيفاً لأنه شعبي!). هذا النمط الذي لا يمكن، بسهولة، مناقشة العلاقة الغريبة بين قيمته الفنية المتواضعة، وانتشاره الشعبي الكاسح. على هذا المنوال، الخفيف، الغربي النفس بنسبة كبيرة منه، صنع الراحل عشرات… عفواً، آلاف النماذج. بالمناسبة، ولأنّها بالآلاف، فلا بد من إيجاد لحظات استثنائية فعلاً فيها، تعكس قيمة موسيقية عند صانعها، وتوضح أن المسألة ربما لا ترتبط بالفنان، بل في خياراته الفنية. ما من مطرب، من الكبار (فيروز، نصري، صباح ووديع) إلى فناني الأسطوانة الواحدة أو حتى الأغنية الواحدة، إلا لإلياس الرحباني لحنٌ له. والأغلب، لحنٌ ناجح إذا اعتمدنا الانتشار الواسع معياراً للنجاح. إحصاء لائحة الأسماء التي تعاونت معه في عمل أو أكثر يبدو مشروعاً ضخماً، فكيف بمشروع إحصاء أعماله؟! مسيرة أكثر من نصف قرن، لشخصية فنية مثل إلياس الرحباني لا يمكن «اللحاق بإيقاعها» إحصاءً وأرشَفَة. من الأغاني والمقطوعات الموسيقية والموسيقى التصويرية (في المسرح والسينما) إلى الإعلانات والأناشيد الحزبية وأغاني الأطفال وكل ما قد تدخل فيه الموسيقى عاملاً محفّزاً على الرقص أو اللهو أو الحب أو التأمّل الرومانسي أو الاستهلاك أو حتى القتال والحماسة والعنفوان (اليميني المسيحي بحكم الجغرافيا أكثر منه عن قناعة سياسية) واللعب والمرح. ما ترك مجالاً إلا كان له فيه بصمة طبعت جيلاً من روّاد الملاهي والفنادق وحاملي البنادق في الخنادق و«ستّات البيوت» وأطفالهم (قد يكون أهمّ ما قدّم للمجتمع اللبناني تلك الباقة من الأغاني التي رددناها جميعاً في الثمانينيات وبعدها).
بعض ما قدّمه يعدّ ذا مستوى عالمي في مجاله مثل تجارب الديسكو التي خاضها
عاش إلياس الرحباني حياةً موسيقية، سمعاً وإنتاجاً. مال إلى الموسيقى الغربية، الكلاسيكية الجادّة في بداياته، ثم إلى التجارب الموسيقية، الغنائية والأوركسترالية الخفيفة وموسيقى الشعوب، فكان متابعاً شرساً لها، وبالأخص الأغنية الفرنسية والبوب بكل أشكاله. هذا يظهر في إنتاجه لأعمال تحاكي هذه التيارات، من الديسكو إلى أغاني الـ Slow وموسيقى الـ Easy Listening الأوركسترالية التي ترافق انتظار الناس في المطار والمصعد، على غرار كلايدرمان وبول موريا وراوول دي بلازيو (الذي تشارك معه المسرح في لبنان)، وعلى غرار فاوستو بابيتّي، لناحية أغلفة الأسطوانات، الذي تخطّاه (مرة واحدة) زميله اللبناني لناحية التصميم الـ«…» (نترك لكم إضافة الوصف الذي ترونه مناسباً) الذي كان ربما يُستَدرَج إليه بتوجيه من المنتج لدعم أرقام المبيعات. في هذه التجارب معرفة كبيرة بخصائص هذه الألوان الموسيقية التي طبعت الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وبعض ما قدّمه الراحل يعدّ ذا مستوى عالمي في مجاله (مثل تجارب الديسكو التي خاضها الراحل في فترة كانت لا تزال فيه هذه الموسيقى جديدة حتى في أميركا). هذا الاتجاه رأيناه لاحقاً في نجله غسّان الذي يعتبر، أحببنا الروك أو كرهناه، أحد ألمع وأول الأسماء في صناعة هذا النمط بحِرَفية تضاهي الصناعة الغربية.
رحل إلياس الرحباني. صانع الموسيقى بهدف الفرح الخفيف أو الحزن المراهق لا القلق العميق. تلك الموسيقى التي يليق بها بيانو أبيض يمرّ خلفه حصانٌ أبيض. المتعة موجودة في الحالتين، وهو اختار الإمتاع من خلال الأولى ورحل ملكاً في هذه المملكة، ولو أن بعضنا يجد متعته الموسيقية في الثانية، حيث البيانو، وكذلك الحصان، أسود.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا