لكي نقدّم توصيفاً شاملاً للقطع الموزّعة في الطابق الثاني في «دار النمر» (كليمنصو – بيروت)، ما علينا إلا الاستعانة بعنوان المعرض «صندوق الفرجة: لزوم ما لا يلزم» لما يمنحه من معنى مباشر للتفرّج والاستكشاف. غير أن ما يميّز المعرض عن صندوق الفرجة، هو غياب تلك المسافة التي تبعد الزائر عمّا يراه بسلسلة من الشرائط والمشاهد داخل العلبة الخشبيّة. إذ أن المعرض يقدّم لنا فرجة حيّة بلا شاشات. لا يركن المعرض بسهولة إلى تصنيف محدّد. يمكننا القول إنه تاريخ مادّي متشعّب للمنطقة منذ القرن الثامن عشر وصولاً إلى القرن الماضي في فلسطين ولبنان وتركيا، تضاف إليها وثائق نادرة من مصر وفرنسا وبعض البلدان الأوروبية والآسيوية الأخرى. تقودنا هذه الأعمال إلى اكتشاف محطّات وسياقات ثقافية وسياسية، وكوارث طبيعية، وتقاليد اجتماعية ودينية من خلال الأغراض والأدوات الكثيرة التي يحويها، والتي تتجاوز الـ 250 قطعة. بعيداً عن أي تصنيف محدّد أو صلف، تخرج «دار النمر» المخبّأ من مجموعتها: أحذية، علب تبغ، إعلانات، ملصقات، أراجيل، منحوتات، آلات، ألعاب، محافظ، بطاقات وتذاكر وأقمشة وإعلانات، وآلات، وصور، وألعاب، ولوحات، هدايا وقبّعات الأعراس...
من المعرض

هذا معرض الأشياء العاديّة لا ينفكّ يثير فضول الزائر. تمرّ أمامنا تواريخ، وأيام، ووجوه، ومهن، وتقاليد، وحرف، ولمحات فنية وسياحية، وثقافية ودينية من أيام ولّت. ووفقاً لطريقة تنظيم المعرض وتنسيقه، لدينا طريقتان لرؤية محتوياته. بإمكاننا أن نتفحّص الكتيّب المرفق به، والذي يحوي معلومات مكتوبة مفصّلة للقطع المعروضة وفق أرقامها، قامت بتوثيقها لمى قبرصلي (راجع الكادر). وهذا ما يعيننا على بناء تلك السرديات التاريخية المرفقة بالمعروضات، وفهم أدقّ لموقع هذه الأغراض ووظائفها. في الوقت نفسه، بإمكاننا أيضاً الاستسلام للقطع نفسها ولهيئاتها الماديّة، بما تثيره من حماسة للاكتشاف. شيئاً فشيئاً، سيتمكّن المتفرّج من بناء تصوّراته الخاصة، وهذه تجربة قد تخرج بمعان متنوّعة للقطع انطلاقاً من ذاكرتنا الفردية المختلفة التي تتفاوت بين الأجيال ومعرفة الزائر.
ثمّة أقسام مختلفة لا تقوم على تقسيم مباشر، بل تحدّدها طريقة العرض وفق المواضيع والبلدان والفترات الزمنية. هناك الوثائق المطبوعة والمصوّرة من لبنان: ملصقات أفلام، وتذاكر لعروض مسرحية وسينمائية منذ الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، طلبات للحصول على تصريح للحصور على ناد ليلي. في هذا القسم سنتعرّف إلى الحركة السينمائية، والفنية الناشطة في لبنان ومصر وسوريا من خلال وجوهها مثل سامية جمال ووديع الصافي وعمر الزعني ونور الهدى وآخرين. حياة اللهو في بيروت، تظهر أيضاً في بطاقات اليانصيب واللوتو، ووثائق ترسم ملامح شارع المتنبي في العاصمة من خلال بعض وجوهه وملاهيه مثل أمّ وليد وغيرها من العاملات في الشارع.
ملصقات أفلام، وتذاكر لعروض مسرحية وسينمائية منذ الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات


من ناحية أخرى، يفسح «صندوق الفرجة: لزوم ما لا يلزم» مجالاً لعرض العادي من القطع والمنتجات. قطع كانت في ما مضى مستلزمات يومية أساسية باتت اليوم وثائق نادرة عن أساليب الإنتاج المختلفة، والأنماط المعيشية، في الأكل، والعمل والفنون. عرض هذه القطع يحرّك بعض الأسئلة عما يجعل من غرض ما يستحقّ العرض دون سواه، وعمّا إذا كان الزمن وحده كافياً لكي يجعل من قطعة وثيقة جماعية. كذلك يضيء المعرض على دور أساليب العرض، وطريقة اختيار القطع في المتاحف ودور هذا الاختيار في رسم وعي المتفرّج عن تواريخ وأحداث مختلفة من الماضي من خلال عرض قطع وأعمال فنية واستثناء أخرى. هنا أيضاً، لا يدّعي المعرض تقديم سرديات كاملة، بل لمحات وحكايات منها، بالاستناد إلى المجموعة نفسها وما تراكم فيها وفق أهواء جامع هذه القطع واهتماماته، وما استطاع النجاة من كلّ هذه السنوات. يقوم المعرض كلّه على هذه السنوات الطويلة التي تبدّلت فيها أنماط الحياة. مسافة زمنية يتكئ عليها المعرض، من أجل التجريب في طرق العرض. ما يفضي إليه المعرض هنا، هو الإقرار بأهمية أصغر وثيقة، بعيداً عن قيمتها المادية، ودورها في تقديم نتف تاريخية من خلال زجاجات البيرة وعلب السمن والتبغ وغيرها من الأدوات العادية الأخرى، وهذا ما يتوقّف عنده أحد مقاطع نص المعرض: «الأشياء الموجودة في هذا المكان تذكارات منتهية الصلاحية، إنها رموز من التجارب التي عاشت في زمن مضى».

من المعرض

يأخذنا المعرض إلى فلسطين ما قبل النكبة وما بعدها: لافتات سكك القطار، وإعلان لشركة حمضيات يافا، حقيبة يد تذكارية من عرق اللؤلؤ نُحتت عليها قبة الصخرة، وثائق وأصفاد وصور وأحزمة تعود إلى الشرطة الفلسطينية التي أسّستها بريطانيا في القدس كشرطة استعمارية بداية عشرينيات القرن الماضي. هناك محطّة أساسية أيضاً في تركيا العثمانية، بتقاليدها الدينية والثقافية والاجتماعيّة التي تظهر في عصا وقبعات الدراويش الصوفيين والسُّبحات وقوارير مياه مقدّسة وعمامات الشيوخ، وبعض القطع الفنية والكاليغرافية النادرة.
المسافة الزمنية وحدها لا تمنح جميع القطع المعروضة قيمتها، خصوصاً أن هناك عوامل كثيرة تحدّد هذا الأمر وتختلف بين زائر وآخر. لكن ما يقوم عليه المعرض قبل كلّ شيء هو تجربة الفرجة نفسها بما فيها من استكشاف وبحث في تفاصيل وأغراض، حميمية أحياناً من شأنها أن تبني وتراكم تواريخ بديلة على هامش الأحداث والتحوّلات الكبرى في المنطقة.

الذاكرة الجماعيّة
أعدّت المعرض لمى قبرصلي، التي أمضت أشهراً لتوثيق كلّ القطع، وجمع المعلومات التفصيليّة عنها قدر الإمكان بالاستناد إلى الكتب والوثائق المتوافرة. بعد أشهر من الإغلاق بسبب إجراءات وباء كورونا، فضّلت «دار النمر» استئناف برنامجها، من خلال معرض يمتع المتفرّج بدعوته عبر رحلات زمنيّة متنوّعة بعيداً عن القلق المحيط، كما تخبرنا قبرصلي. بالنسبة إليها، فإن اختيار هذه الأغراض وجمعها ضمن أطر متنوّعة، انطلقا أيضاً من قيمتها المعنوية، خصوصاً في الذاكرة الجماعيّة. الأعمال المعروضة تأتي من مجموعة مؤسس دار النمر، وصاحب الأرشيفات الفنية في الدار رامي النمر الذي جمع هذه الوثائق والأغراض على مدى سنوات ضمن اهتمامه بذاكرة المنطقة. كما استعان المنظّمون أيضاً ببعض الوثائق من مؤسسات ثقافية محليّة، تصبّ في المواضيع والفترات الزمنية التي يتناولها المعرض.


معرض «صندوق الفرجة: لزوم ما لا يلزم»: حتى 12 حزيران (يونيو) ــ «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو - بيروت). للاستعلام: 01/367013