في شتاء عاملة يصمت كل شيء ويسهد الفكر ويتوقد، فالاثارات التي تمليها ظروف النهار تلح عليك بها ليالي عاملة السامرة، المتهمة في فضاء النص، واذا كان النص هو وهج الحقيقة التي ذاب فيها الناس، فيعني ذلك أن تثني ركبتيك أمام تلك الحقيقة، والسؤال الذي يملأ ذات كاتب هذه السطور: هل أن التمعن في النص مشروع حياة ومنهج طريقة يدأب عليها الفرد من المشتغلين في النص؟ لست في حاجة الى التطواف الى الجهود المبذولة قديماً وحديثاً في البحث عن أصل الدلالة، فذاك بحث مارس فيه العلماء أمهر عبقرياتهم، ثم انكفأوا الى الاستخدامات اللغوية التي مر بها اللفظ أو مرّت به. واذا أردنا الحديث عن النص باعتباره افراز ثقافة عربية - ونحن في صدد الحديث عن النص العربي- فإننا نقصد به النص الشعري، لأننا لا نملك كما ذكرنا من قبل نصاً نثرياً عربياً تاماً بمعنى الجمهرة النثرية، الا أن أستاذي المرحوم الدكتور علي الجندي كان يلفت إلى أنّ هناك نثراً عربياً منثوراً في مصادر الادب العربي.وهذا الرأي لايوافقه تلميذه الدكتور صلاح الدين علي رزق ، ثم انه يحصر النص في الشعر ويقول إنّه ليس هناك نص نثري يعتمد عليه، وفوق ذلك فانه يحصر الشعر في أيام العرب غير أن النص العربي واجهه نص ثقيل - كما جاء في الذكر الحكيم - في قوله تعالى «إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً» مخاطباً رسوله الكريم.
وبالعودة الى النص العربي، يمكننا التساؤل: هل الاجدر بنا أن نقارب القرآن الكريم كما نقارب الشعر؟ وعن الشعر، يقرر الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في كتابه «الجملة العربية في الشعر العربي» أن لغة الشعر لغة مختلفة والبناء النحوي فيها مختلف. وهنا يجدر بنا التأمل في نظرية عبد القاهر وكيف بنى نظريته في اعجاز القرآن الكريم، وهل نجرؤ على قراءة نظرية عبد القاهر من جديد، فنظرية عبد القاهر قائمة على توخي معاني النحو وأي نحو قصد؟ النحو الذي قاربه العلماء مستخلصاً من لغة الجاهليين.
غير أن أس النظرية في جانبها النظري قائم على المنطق النحوي. غير أن البحث يحاول أن يتعرف على معالم هذا النحو، واذا كان المنطق النحوي الشعري قد ساد في مساحات الدراسات النحوية واللغوية وقد التمس واللغويون الشاهد من تلك النصوص الشعرية حتى اذا غلا بعضهم لمذهبه النحوي - في ظل ذلك السباق المحموم بين مدرستي البصرة والكوفة - قدم هذا الشاهد أو ذاك على صحة رأيه النحوي او اللغوي.
وقد يتوهم البعض أنها دعوة للهدم او محاولة لتقويض صرح الدراسات النحوية واللغوية، لكن التروي يقودنا الى أن نفهم أس الدراسات التي قامت عليه علوم العربية ونتأمل بين العربية والقرآن الكريم. لقد قدم لنا القرآن النص الأمثل الذي شكل عدولاً عن لغة العرب الى حد تغيير معالم تلك. واذا كانت الدراسات العربية في أولها قامت من أجل صيانة لسان المسلم من اللحن، فان الدراسات البلاغية حاولت إجلاء الستار عن حقيقة الإعجاز، ولقد ازدهرت وطورت الفكر النحوي واللغوي.
واذا كانت الدراسات اللغوية المحضة قد أنتجت علم النحو والصرف والاصوات، فان للمفسرين دوراً لغوياً مهماً واضحاً لأنه انطلق من محاولة الوصول الى القصد المعنى المبتغى ويقتفي كلامنا هذا سؤالاً وهو: هل محاولة المفسرين نبعت من الفكر اللغوي نفسه في قراءة القرآن الكريم أم أنهم سلكوا طريقاً آخر. فعلى مستوى التطبيق، كان للمفسرين نكات كثيرة لم يلتفت لها اللغويون أو النحاة لأن محاولتهم الحثيثة في فهم النص كانت تفضي بهم الى التأمل أكثر في المبنى والمعنى. أما النحاة أو اللغويون، فكانوا يحاولون رصد الظواهر النحوية أو اللغوية إلى حد كبير.
غير أن المفسرين في عملهم هذا، هل شذوا عن اللغويين والنحاة في أسس التفكير اللغوي، والاجابة تحتاج الى تتبع دقيق الى ما أنتجه المفسرون والمشتغلون في علوم القرآن الكريم، بمعنى: هل انطلق المفسرون من فهم أشعار العرب طريقاً الى فهم القرآن الكريم؟ وهل كان الاستئناس بما قالت العرب كان أس عملهم في فهم القرآن الكريم؟ أو كان الفقهاء وعلماء الأصول أكثر وعياً بالنص من المفسرين لأنهم انطلقوا من النص ذاته في تفسير المعنى، من النص باعتباره الثنائي الكتاب المجيد والسنة المطهرة؟ ثم إنهم درسوا النص في ذاته ولذاته؟ وأعتقد أن تجربة الفقهاء وعلماء الأصول جديرة بالتأمل وإنها ستشكل قفزة متقدمة في حقل الدراسات اللغوية المفضية الى فهم أكثر التصاقاً بالمعنى.

* عالم لغوي بحريني