بعدما فرغ عبد الرحمن منيف من روايته الأخيرة «أرض السّواد» (1999)، اتّجه إلى جنس كتابيّ آخر: المقالة. كانت تلك المرحلة أشبه باستراحة بعد الجهد الهائل الذي بذله في كتابة «أرض السّواد» وما سبقها من روايات. كان منيف قد أصدر عام 1991 كتاب «الكاتب والمنفى»، ولكنّ ذلك الكتاب - على أهميّته العظيمة - كان تجميعاً لحواراته، فيما كانت المرحلة الجديدة مختلفة. وكانت أولى ثمارها كتاب «بين الثقافة والسياسة» (1999) الذي بدا أقرب إلى مفتاح للحياة المزدوجة التي عاشها منيف: السياسيّ السابق والروائي الحاليّ. ولعلّ هذا المفتاح لم يكن ليظهر لولا انغماس منيف مع سعد الله ونّوس وفيصل درّاج في سلسلة «قضايا وشهادات» التي كانت المعبّر الأكبر والأفضل عن الدور المزدوج للكاتب في الفضاء العام. ومن ثمّ اتّجه منيف إلى زاوية مهملة في الكتابة العربيّة: الكتابة النظريّة في الرواية وعنها. كانت الكتابة النظريّة، وما زالت إلى حدّ كبير، حكراً على النقّاد، إذ يفضّل الكتّاب الإبداعيّون النأي بأنفسهم عن التحدّث عن «مطبخ الكتابة»، والتفرّغ للكتابة الإبداعيّة في ذاتها. لم يطرح منيف نفسه ناقداً، بل فضَّل البقاء على الحافّة، بحيث كانت تجربته النقديّة النظريّة مُستمدَّةً من تجربته الإبداعيّة، كي يمنحنا عام 2001 ثلاثة كتب تبدو أقرب إلى ثلاثيّة متكاملة: «رحلة ضوء»، الكتاب الأبرز الذي طرح فيه منيف رؤيته الشخصيّة للكتابة، وللرواية على الأخص، «ذاكرة للمستقبل» الذي يبدو قريباً من «بين الثقافة والسياسة» مع تركيز أكبر على التاريخ بوصفه «ذاكرة إضافيّة للإنسان» على حدّ تعبيره الأثير، «لوعة الغياب» الذي لا يشبه أيّ كتابٍ من كتب منيف، ولا أحسب أنّ له مثيلاً في العربيّة، حديثاً على الأقل.ينطلق كتاب «لوعة الغياب» من الموت، ثيمةً وتأسيساً لكتابة تنوس بين النقد والذاكرة، بين الموضوعي والذاتي. ينطلق الكتاب من عنوانه البديع، إذ يشير منيف إلى أنّه استعار الكلمة الأولى من ديوان «لوعة الشمس» لجبرا إبراهيم جبرا، فيما استعار الكلمة الثانية من القاموس البدوي، حيث يستخدم البدو كلمة «الغياب» لا بمعنى التلاشي، بل للدلالة على الغروب الذي سيتبعه شروق حتماً. الغياب هنا، وإنْ كان موتاً، غياب موقّت تُخلَق منه حياة جديدة، حين يشدّد منيف على أهميّة «المراكمة الإيجابيّة»، أي استثمار الموت بهدف قراءة موضوعية لتجربة من رحلوا كي نؤسّس عليها بناءً جديداً للجيل اللاحق؛ ذاكرة تتراكم لتبني، لا أن تكون محض فرصة للرثاء العابر الذي ينتهي بانتهاء مناسبته. وبذا، لا يبتعد منيف من الفكرة الجوهرية التي تقوم عليها أعماله كلها تقريباً: سباق التتابع، حيث يُسلِّم كلّ جيل أو كل شخصيّة اللواءَ للجيل أو الشخصية اللاحقة، كي تستمرّ دورة الحياة ولو تخلَّلها موت عابر. ينتقي منيف هنا 26 شخصيّة أدبيّة وثقافيّة ارتبطت بالموت، إما حرفياً حين رحلت تلك الشخصيّات فكتبَ عنها منيف دراسات مهمّة، أو مجازاً في الاستثناء الوحيد الذي مثَّله حليم بركات، حيث كان عمله لا شخصيّته، هو المرتبط بالموت، في رواية/ سيرة «طائر الحوم». انتقاء الشخصيّات مرتبطٌ بذائقة منيف، إذ يشير إلى هذا صراحةً في مقدّمته للكتاب. سيفترض وجود الذائقة اختلافاً ضرورياً حيال مدى أهميّة أحكام منيف التي أسبغها على هؤلاء الكتّاب، إذ قد نتّفق أو نختلف بشأن الاحتفاء المبالغ به بشأن نزار قبّاني مثلاً، أو بشأن التفاوت في عدد الصفحات المكرَّسة لكلّ شخصيّة من الشخصيات. لا حلّ بشأن معضلة نزار، لكنّ المعضلة الثانية مرتبطة برحيل منيف نفسه، إذ أضاف الناشر 12 أو 13 شخصيّة لم تكن في الطبعة الأصليّة للكتاب في حياة منيف (2001)، بحيث بدا الفارق واضحاً بين الرثائيّات السريعة لتلك الشخصيات، وبين الدراسات العميقة المكرَّسة للشخصيّات الـ14 الأولى.
لكن فلنبق في ما نحن متّفقون عليه، أي الدراسات الـ14 الأولى في الكتاب، حيث يمنحنا منيف دراسات عميقة ومهمة وفريدة تنتقل بسلاسة بين الثقافة، والأدب، والنقد، والذاكرة، والتاريخ. ولعلّ أهمّ دراستين في الكتاب هما الدراستان اللتان كرّسهما منيف لسعد الله ونّوس ولغائب طعمة فرمان، ويمزج فيهما ببراعة جميلة بين الذاتي والموضوعي، ليقدّم لنا جنساً أدبياً غير معترف فيه عربياً بكل أسف، إذ تندرج القراءات النقدية العربية بين تصنيفين منفصلين بينهما هوّة كبيرة لا سبيل إلى رتقها: كتابة نظرية جافة منفّرة كما في الغالب الأعم من القراءات النقدّية، أو كتابة ذاتيّة تبدأ وتنتهي بالعلاقة الشخصية التي تربط الكاتب بالشخصية التي يكتب عنها بدون أدنى مسافة موضوعية، بحيث تتحوّل إلى احتفاء مجاني لا قيمة له بعد انتهاء مناسبته. يكتب منيف انطلاقاً من تجربته الشخصية، لكنّه يوسّع آفاق تلك الكتابة لتسليط أضواء مهمّة على الجوانب المهملة من حيوات الشخصيات موضوع الدراسة. تتحوّل رسائل غائب طعمة فرمان الشخصية إلى وثائق فريدة لنفهم شخصيّة فرمان وأعماله أكثر، على الأخص من ناحية التأثير المتبادل بين فرمان والمنفى الطويل والبعيد الذي أقصاه عن بغداد. وتتحوّل تجربة منيف الشخصية في مشاهدة مسرحيّة ونّوس «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى نقطة انطلاق يُعمِّق فيها منيف دراسة علاقة ونّوس بالتاريخ وبالسلطة، مع تركيز خاص على مسرحيّة «منمنمات تاريخيّة» وكتاب «عن الذاكرة والموت». وتتحوّل ذكريات منيف الشخصية مع جبرا إلى تحليلٍ دقيقٍ لبغداد الخمسينيّات بكلّ تيّاراتها السياسية والاجتماعية والثقافية. على أن ذلك التّلاقي البديع بين الذاتي والموضوعي يصل إلى أقصى درجات اللوعة حين يتحدّث منيف عن حسين مروّة، لينطلق من سؤال مروّة العابر عن شخصيّة متعب الهذّال في رواية «التّيه» (الجزء الأول من خماسيّة «مدن الملح») بشأن الفارق بين العودة والبقاء، ليتحوّل مروّة إلى تجسُّد آخر من تجسّدات متعب الهذّال، أو العكس بالعكس، ويوغل منيف في تشريح معنى القتل ومعنى الحرب الأهليّة ومعنى غسيل العقول الذي يُنتج قتلةً بمقابل تنوير العقول الذي ينتج أجيالاً جديدة. لكن يبقى سؤال مروّة ومنيف صادحاً: هل المهم أن نعود أم أن نبقى؟ لا نعلم النّتاج الذي كان منيف سيقدّمه لنا لو عاش هذه السنوات الـ17 التي تفصلنا اليوم عن رحيله. كان قد باح لمروان قصّاب باشي بأنّه لن يعاود كتابة رواية طويلة بعد «أرض السّواد»، ولكنّه قال العبارة ذاتها بعد «مدن الملح». ليس هذا مهماً، ولا فائدة من التحسّر. منيف لن يعود، ولكنّه سيبقى. هذا هو المهم.