مرت أمس ذكرى ميلاد المؤلف الموسيقي الاستثنائي الذي لم تعرف البشرية مثيلاً له في عدد مؤلفاته التي طالت كل قوالب التأليف الموسيقي بدون استثناء من أبسطها وأجملها الى أكثرها احترافاً وتعقيداً. تمرّ ذكراه والعالِم الموسيقي ما زال يلهث خلف مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة كموديلات يتوسلها من دون أن يفهم كيف استطاع هذا الفتى كتابة كل هذه المؤلفات منذ نعومه اظفاره ليخوض بها غمار التأليف الموسيقي والاوبرالي وراحلاً عن عمر قصير جداً لا يتناسب مع كمية ونوعية هذه المؤلفات العظيمة الخالدة. لشدة صلابتها وشفافيتها، غدت نماذج جمالية ستبقى الاوركسترات الفيلهارمونية الكبرى والاوبريتات والاريات الدينية نزولاً للمؤلفات المكتوبة لاصغر التشكيلات الموسيقية سواء من الالة الواحدة صعوداً للإثنتين أو لِثلاث آلات او للرباعي الوتري، لتحتفل باستحضارها حية تنبض بحيوية الابداع الصافي! كذلك، ستبقى الاكاديميات والكونسرفتوارات الموسيقية المتخصصة تحت راية الاساتذة الكبار والمفكرين والمنظرين الموسيقيين سيظلون كلهم دائماً عبر الزمن يسعون وراء تراثه العظيم ليتوسلوه من جميع وجوهه الجمالية والاكاديمية والبنيوية لينشروا من خلالها عبائر انجازاته الخرافية بما تحمله قيمها الفنية من احتمالات لمحاكاتها بنماذج التعبير المبتكر ولمقاربتها بسمو يفتح على التفكر وتدبر جماليات الرؤى التي لطالما خاطبت وستخاطب عقل وقلب الاجيال باسرار خصوصيتها وبعبقرية هذا المؤلف العظيم. اعتقد أنّ كلاماً كثيراً سيُحكى وتحليلات عميقة ستُكتب ودراسات متعددة المشارب والرؤى ستبقى تدور حوله لتتعلم منه وتدلل على تفوقه وموهبته، ولكني انا كاتب هذه السطور سأقفز عنها جميعاً لأختار منها حقيقة واحدة فقط لا غير وبأقل عدد من الكلمات التي قد يحتملها مقال صحافي. حقيقة واحدة قلما يلتفت لها ناقد أو موسيقي او استاذ او مؤلف، وهي أتتني اولاً بأول بالسماع لتتأكد بالتحليل، فتدل على مدى عظمة الرجل وعمق موهبته، حيث نجد عبرها أن من بين مؤلفاته التي حاول اعداؤه (سالييري مثلاً) في عصره التسلل عبرها ليطالوه بها كمأخذ، كان في إحدى صيغ اعماله التي جاءت تحت قالب الـ Divertimenti والتي يمكن ترجمتها بالعربية بالتسليات أو التسالي. مع ذلك، كانت تقطر بسيولة ميلودية تبدو سهلة للسامع العابر وكان الهدف منها أن يشعر الاشراف والامراء واصحاب النفوذ والاقطاعيون الكبار بالتسلية والسمر في سهراتهم الخاصة في القصور. وقد كتبها موتسارت بصيغة ظنها هؤلاء أنها خفيفة جاءت لإعطاء اجواء السمر أبعاداً تعبيرية فرحة خفيفة وراقصة لا اكثر. لكن سيتبين لاحقاً سواء عبر السماع الموسيقي او بتحليل مدوناتها بعمق واحتراف انها ممتلئة بسعة نغمية وعمق بنيوي وصلابة ميلودية وانسجة بناء متينة بتوزيعاتها وبهارمونيات تعدد أصواتها البوليفونيا الممتلئة بكثير من البلاغة. وفي احسن الاحوال اذا استمع اليها الانسان العادي بانتباه، سيجد فيها عمقاً لا يحاكي الا ببذخ وجمال التأليف الصلب الذي يتوسل السيولة اللحنية المبتكرة باغراءات السهل الممتنع داخل انسجتها البوليفونية المزركشة والموشحة بألوان تقارب الكمال في توازنها وتناغمها وتوازيها بسيولة وطراوة يصعب تفسيرها كتسليات، لا بل لا بد من الاعتراف بانها تمت الى العبقرية اكثر بكثير مما تمت للتسلية! سيصعب كثيراً على الانسانية رغم العدد النسبي الكبير من المؤلفين الموسيقيين العالميين العظماء أن تنجب مرة ثانية مؤلفاً موسيقياً بهذا القدر الخارق من الموهبة والاحترافية العفوية التي لا علاقه لها بالمدارس والمعاهد والكونسرفتوارات، ولا تمت الى أي شيء آخر غير الموهبة الخارقة العصية على التفسير والدراسة! شيء ربما الهي رباني عصي على التفسير العقلاني، فالله فقط وحده جل شأنه وعلا يعلم ماذا أودع في رأس وقلب ووجدان هذا الطفل ابخره الينا بهذه الروح الموسيقية التي خصصه بها وحده دون أي مؤلف موسيقي آخر. ولكنه للاسف كُتب عليه الرحيل باكراً جداً وفي ريعان شبابه عن عمر لم يتجاوز الـ٣٥ سنة فقط. رُب قائل أن بيتهوفن ايضاً كان عظيماً وكذلك باخ وشوبان وشوبيرت وكثيرين غيرهم، ولكن بيتهوفن مثلاً ورغم عظمته، كان فاشلاً في الاوبرا، وغيره من الاسماء الكبيرة الاخرى بقي لديها ثغرة او نقطة ضعف ما في احد ابواب التأليف. وحده موتسارت كان كاملاً خارقاً وبارعاً في كل انواع التأليف الموسيقى ومبدعاً في كل شيء دون أي عائق أو نقصان. وقد فاق كل اقرانه في الكم والنوع رغم رحيله المبكر. ستبقى الانسانية تحتفظ له اذن بمكانة خاصة واستثنائية جداً رغم رحيله المفجع الذي جاء بمثابة ضربة كبيرة وخسارة لا تُعوض لعالم التأليف الموسيقي الذي لو عاش فيه حتى الستين مثلاً، لكان تراثه قد فاق التصور. ربما لذلك اقول إن الانسانية قد لا تعرف مرة ثانية مؤلفاً اخر بمثل كماله وعظمته وغناه