«أفتح هذه المدونة الصوتية «النائم» بعدما سألتُ من حولي عن أحلامهم ليس فقط فضولاً مني، بل رغبةً في معرفة تلك العوالم التي لا تخضع لأحكام ولا تطلب إذناً كي تحدث، وتأكيداً على فكرة عدم الخوف من المخيلة، بل إطلاق العنان لها للأقصى وتصديق ما فيها وكأنه حقيقة، لأنه الحقيقة» تقول لنا الزميلة أحلام الطاهر في المقطع التعريفي بالموسوعة الصوتية «النائم» على تطبيق soundcloud.com. المشروع بفكرته الجديدة عربياً بدأته الطاهر بأسئلة جوهرية حول الحلم والحكاية، ليدخل بعدها الوباء كعامل ثالث في أحلام ثلاثة وأربعين من الشعراء والمبدعين والروائيين في فترة الحجر في زمن كورونا، أسئلة من قبيل: من أنا حين أحلم بنفسي؟ ما الفرق بين الحلم ورواية الحلم؟ أليس من العبث تحويل المادة الحلمية إلى نص وخطاب وهي أقرب لضروب النسيان وزلات اللسان وهفوات السلوك؟ وتحاول أن تجيب بالمعادلة السائلة التي يوفرها التزاوج بين الحلم والحكاية أو الشعر: «النائم يتخطّى الأجوبة، يكفيه أن يرى ويختزن ما يراه ليهديه إليكم. سواء كان هذا الأرشيف صوراً بصرية مجزّأة وغير متلاحمة وشذرات من أحاديث ونقلات غير منطقية في الأحداث والأمكنة والأزمنة إلا أنه يبقى خزّاناً للحكايات... حول مشروع «النائم» وفكرته وخلفياته، كان هذا الحوار مع أحلام الطاهر التي أكدت أنه «في الحكايات وحدها نطوّع المدن الموبوءة على هوانا ونخرج من قيود الحجر إلى الحلم حيث لا جدران ولا قوانين... أبداً»
كيف وُلدت فكرة «النائم»؟
ـــ لم أطرح على نفسي أية أسئلة... اخترتُ المادة البصرية من مجلات العمارة وكتالوغات الموضة وملصقات مهرجانات الغرافيك... مزيج من الفوتوغرافيا والكولاجات الورقية بوسائط متعددة لأسماء أكتشفها للمرة الأولى: إنديا لاوتون، ألبا برات، جوان أوزورنو، لوران ميلي، ويليام لارسون، إيزابيل ريتماير... مثل المنامات، تحتفي هذه المشهديات بالنقص وتحوّل الشكل البصري إلى حالة ذهنية، حيث الدمج والنقل والتحريف تضفي الجمال على الذعر. شعرت في الحال بأنني في بيتي. النائم فرض نفسه كفكرة مكتملة. «كيف ولدت هذه الفكرة» سؤال يطلب مني أن أبوح بأسرار لا أملكها. لكنّ شيئاً ما يُعيدني إلى أعمال الفنانة الأدائية صوفي كال. بعد سبع سنوات من السفر حول العالم وعند عودتها إلى باريس عام 1979، قرّرت كال أن تلاحق بكاميرتها كل يوم شخصاً مجهولاً مثل مخبر سرّي وتكتب عنه، كأنها تتعرف عبر مساره إلى المدينة من جديد. وطلبت أيضاً من 28 شخصاً النوم في سريرها، والتقطت صوراً لكل منهم بعد أن يغط في نوم عميق، كما سعت للعمل خادمةً في فندق، لتدخل غرف النزلاء وتصوّر ما يتركونه من أغراض حميمة. هذه النظرة المتلصّصة نجدها لدى جامع المنامات أيضاً، المنام يشبه رسم اسكتش سريع لسيرتك الذاتية، ثمة خيط يربط المنامات بالشخصية ككل.

ما هي أهمية المنام بصورة شخصية بالنسبة إليك؟
ــــ المنام نظام محرّض جداً يملك أساسه المنطقي الخاص. ثمة منامات غيّرت مسار حياتي كلياً ـ وليس بالمعنى المجازي ـ نقلتني من مدينة إلى أخرى، قرّبتني من غريب أو أفقدتني حبيباً لأنها منحتني أجوبة على أسئلتي الأكثر جنوناً وأردت من خلال هذه التجربة أن أقيس مدى خطورة منامات الآخرين أو أن أعثر على مناماتي من بينها كمن يعثر على كتاب ضائع لا نقرأ عنه إلا في حواشي الموسوعات المتخيّلة.

صدر عربياً لنجيب محفوظ «أحلام فترة النقاهة» وأخيراً في فرنسا كتاب لدانيال بيناك حول الحلم. هل اطّلعت على بعض التجارب الأدبية في التعامل مع الأحلام؟
ـــ قبل بضعة أشهر، أخفقتُ في مراجعة الكتاب الأخير لدانيال بيناك «قانون الحالم». إخفاق توصلت بعده إلى استنتاج بسيط: المنامات لا تُنقَد. لكن بيناك يحرر الأحلام من خانة التحليل النفسي ويعتبرها الأصل لبناء الحكاية. القانون الذي يوصي به: على كل حالم أن يمتلك أرشيفاً لأحلامه. يبدأ قانون الحالم بكذبة بيضاء، أو ربما بشائعة تقول إن والدة بيناك كانت مساعدة فيديريكو فيلليني في الستينيات. ولكي يشكرها على تعاونها، أهداها رسمة من كتابه «كتاب أحلامي» علّقَتها فوق سرير ابنها دانيال الذي يقول: «في صغري، كنت أنام تحت أحد أحلام فيلليني». وكان فيلليني يدوّن أحلامه في دفتر ملاحظاته كل صباح ويرسمها أيضاً ثم يبحث في الواقع عن ممثلين يشبهون من رآهم في المنام كي يظهروا في أفلامه.

كيف فرض الحجر المنزلي نفسه على الفكرة؟
ـــ بعد جولات الحجر المتعاقبة، اكتسبتُ تدريجاً ذلك النزوع الكاريكاتوري الهزلي، تلك الطريقة في النظر إلى نفسي وإلى كل ما يحدث بتهكّم، وكنت رغم ذلك غاضبة طوال الوقت حتى إنني أظل مرتدية المعطف البلاستيكي الواقي من المطر حتى في الفراش. لذلك كنت أعوّل على ما تستطيع المنامات إنقاذه، كأسلوب لكسر الكآبة والتصالح مع نفسي ومع الآخرين. العالم من حولنا يؤمن بالصور ولا يعتمد كثيراً على الكلمات. يعبّر عن كل شيء بواسطة الصورة التي تركّز على نحو استحواذي وبرتابة على الأشياء. هذه التسجيلات تعطي الصوت الخاصية التعبيرية نفسها التي تمتلكها الصورة، حين نسمع ضجيج بيروت في تسجيل باسل وصياح الديك في ضيعة لور، وسكون غرفة خالد خليفة، ندرك أنه من العبث فبركة أصوات وتركيب موسيقى للخلفية... الصوت المباشر هو الذي يعطي للتجربة معناها ومن المدهش سماع منامات/ أصوات الآخرين وهي تُخرجنا تدريجاً من عزلتنا وتستمر مثل مسلسلات فترة الظهيرة...

لو نظرنا إلى المشروع من منظور التحليل النفسي، هل نحن أمام نوع من أرشفة اللاوعي؟
ـــ بعد يومين من فتح المدوّنة، سمعت على إذاعة France culture حلقة عن أهمية أرشفة اللاوعي وقت الأزمات، فقد استطاعت المحللة النفسية شارلوت بيراد، المنغمسة في رعب النازية في الثلاثينيات من القرن الماضي أن تجمع ما يقارب 300 حلم من سكان برلين، من كبار رجال الأعمال إلى مدبرات المنازل وصغار التجار. كأنها تريد استطلاع أجواء اللاوعي لمعرفة ما إذا كان الآخرون يشاركونها رعبها المتزايد... لكن كيف نقرأ هذه المادة اليوم؟ هل نستطيع أن نقارن بين وباء كوفيد ــ 19 وحكم الرايخ الثالث؟ إذا كانت تلك اللحظات التاريخية التي جمعتها شارلوت بيراد تبدو بعيدة عنا، فإن نهج التوجه إلى الأحلام لفهم ما لم نعد نفهمه عن الذات في سياق جديد وغير متوقع يظل قائماً، فقد اغتنم العديد من المؤرخين والمحللين النفسيين وحتى المؤسسات الكبرى مثل متحف لندن، الفرصة لإعادة فتح الحوار بين العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، من خلال استكشاف المنامات التي نراها منذ الأيام الأولى لانتشار الوباء والتي تُظهر بأن الاضطراب قد وصل إلى الفضاء الأكثر حميمية: إلى اللاوعي...

فتح الحلم على منطقة اللقيا مع السرد والشعر والمخيّلة الأدبية يجعل المشروع في منطقة تتجاوز التحليل النفسي الفرويدي، ما رأيك؟
ـــــ بالفعل ليس هذا هو الهدف من تجربة «النائم»، فما من حلم صادفَ حتى الآن التحليل الشافي. فرويد نفسه يعترف بهذا الأمر. لذلك أنحاز كلياً لتحرير المنامات من إطار التحليل النفسي وأدعو للالتفات إليها من دون بحث عن معنى أو تفسير، بل أن ندوّنها مباشرة، أن نحكيها لبعض بعاميتنا البسيطة، كي تكون مصدراً للحكايات والصور والهلوسات، كأرشيف سردي يثير المخيلة ويقترح رؤية آسرة أكثر للعالم من حولنا. أشعر بالأمان في حضور ما لا أعرفه، وأكون مطمئنة أكثر في الحالات الغامضة، الملتبسة، الخفية إلى حد ما. ما هو غير عادي ومجهول ومدهش أو لنقل بتواضع، ما هو غريب غالباً ما ينتظرني عند منعطف ما في الطريق. يخطر في بالي الآن تعليق لتشارلز سيميك يقول إنّ الأحلام الأكثر متعة ليس لها موضوع واضح. تشبه أن تشعل التلفزيون متأخراً في الليل وتأتي على مشهد من فيلم قديم بالأبيض والأسود، فيلم لم يسبق لك أن شاهدته من قبل، لكنه يبدو لك مألوفاً بشكل غامض. وهذا يعني، أنها ليست الحبكة فقط (عادة ما تبقى مجهولة) ولكن بعض المشاهد أو الصور المنفصلة عن أي سياق هي التي تأسر أعيننا، لأننا نجدها مثيرة للاهتمام وجذّابة من الناحية الجمالية، ثمّ تستمر في مطاردتنا لسنوات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا