مسلسل محقّقة الشرطة البريطانيّة «مارشيلا» يعود في موسم ثالث، وهذه المرّة بشخصيّة جديدة تماماً انتقلت فيها من لندن للعمل المتخفّي في بلفاست شمالي إيرلندا، مستهدفةً الإيقاع بعائلة مافيَويّة تسيطر على التجارة غير المشروعة لميناء المدينة. لكنّ المشاهدين في المملكة المتحدة (على الأقل) فقدوا القدرة على احتمال التقلّبات الساذجة للأحداث، وتوقف أكثر من مليون مشاهد عن متابعة الموسم الجديد بعد الحلقة الأولى على الرغم من الاستثمار الهائل في إنتاج دراما جريمة من الدرجة الأولى: تصوير خلّاب وبطلة جميلة، وتلميح إلى الفساد وسيارات الشرطة البريطانيّة الكثيرة والموسيقى والأضواء والقصور الفارهة ومشاهد العنف والصّراعات السايكولوجيّة المحتدمة. لكنّ فريق العمل نسي الأهم: الحبكة، التي تظل آخر العمود الفقري للمنتج الدرامي، وينبغي أن يوضع الشكل ويصاغ في خدمتها، لا العكس.
«الشكل يتبع الوظيفة»
(لويس سوليفان 1856-1924 – مهندس معماري)


حقّقت أعمال دراما الجريمة الإسكندنافية نجاحاً ملحوظاً لدى الجمهور البريطاني في العقد الأخير بعد تطوّر طرق المشاهدة في عصر الستريمينغ. ونجحت خلال وقت قصير في «سرقة» البريطانيين من مسلسلات الجريمة الإنكليزية المتحجّرة من أيّام الحرب العالميّة الثانية وكلاسيكيات أغاثا كريستي ومغامرات شرلوك هولمز والمحقّق موريس ومقلّديه. فالإسكندنافيون وبدون موازنات مبالغ بها على الطريقة الأميركيّة الباذخة، أنتجوا مسلسلات ذات مزاج أسود كئيب -كأنّه يستلهم طقس بلادهم وألوان المكان فيها – تميّزت بحبكتها المثيرة، وقدرتها على الإقناع، مع إضاءات مهمّة بدون انفعال على جوانب من التهتّك والفساد في المجتمع الرأسمالي، وحالة الاغتراب الحادّ للأفراد فيه سواء من كانوا أشراراً مجرمين أو أخياراً من رجال الأمن، مع السماح دوماً بتداخل الحدود بين الطرفين إلى درجة الالتباس. وبغير المشاهد الطبيعية البديعة وطراز العمائر المميزة، جاءت الشخصيّات البطلة من كل حجم وشكل، بدون إصرار على الوجوه الجميلة حصراً، وقُدّمت مشاهد العنف والجنس والتعاطي في مناخها الإنساني الطبيعي من ثقافة شعوب تلك البلاد دون تصنّع، ودائماً في خدمة المعمار الدرامي للحكاية. فرضت مسلسلات مثل «القتل» The Killing و«الجسر» The Bridge حضورها على أجندة المشاهد العالمي، بل أُعيد تقديمها بنسخ أميركية وبريطانية تستعير القصّة وتعيد موضعتها في سياقات محليّة. بدلاً من أن تحدث الجريمة الافتتاحية على الجسر بين السويد والدنمارك كما في The Bridge، تحدث على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك في النسخة الأميركية، وداخل نفق «اليوروتشانيل» بين بريطانيا وفرنسا في النسخة البريطانيّة وهكذا.
صناعة الدراما البريطانية التي تتفوّق في بعض جوانبها حتى على هوليوود نفسها، استجابت للتحدّي الإسكندنافي في مسلسلات الجريمة وأطلقت أعمالاً مبدعة نجحت تجاريّاً ونقلت مساهمة المملكة في هذا الملعب من «قفصها» التاريخي إلى أجواء «بريطانيّة» معاصرة (انظر مثلاً Unforgotten ،Bodyguard ،Line of Duty...). إلا أنّ «مارشيلا» Marcella ـــ رغم استعانته بكل أدوات الشّكل الإسكندنافي لدراما الجريمة وإنفاقه الاستثنائي على كل متطلبات الدراما العصريّة ــــ تعكّز في موسمه الأوّل، واحتمله المشاهدون في موسمه الثاني مجبرين غالباً سعياً لفهم نهاية القصة بعدما استثمروا كثيراً من الوقت في متابعة الموسم الأوّل. هكذا عندما قُدّمت الحلقة الأولى من الموسم الثالث على تلفزيون ITV البريطاني، استقطبت ـــ مقابل 3.4 ملايين تابعوا الموسم الثاني ـــــ 2.7 مليون مشاهد فقط (15 في المئة من مشاهدي التلفزيون في المملكة المتحدة) ربّما يكون دافعهم الفضول لمعرفة ماذا يمكن لهذه المحقّقة الحسناء نصف المجنونة (تلعب دورها آنا فريل) أن تفعل بعدما استنزفت قصّتها بالكامل في الموسمين الأوّلين. ولمّا وجد هؤلاء بأن الحكاية استؤنفت من مكان لا علاقة فعلية لها بما جرى سابقاً، انسحب أكثر من مليون منهم من المتابعة مع الحلقة الثانية ولم يعودوا أبداً، فيما بدا من ردود أفعال الباقين أنهم أصيبوا بخيبة أمل من «مارشيلا» للمرة الثالثة على التوالي. أمرٌ يضع أمرَ صنع موسم رابع في دائرة من شّك عميق.
لم تُعالج أيّ مسألة بشكل كافٍ: لا فساد المجتمع، ولا قلّة ذمّة بعض رجال الشرطة ولا وضع البطلة النفسيّ ولا علاقاتها بالمجرمين


فأين فشلت «مارشيلا» البريطانيّة، حيث نجح «الجسر» الإسكندنافي مثلاً؟
ينبغي التّذكير بداية بأن فريق العمل (آنا فريل منتجةٌ منفذةٌ له إلى جانب لعب دور البطولة) استعان لكتابة القصّة بهانز روزنفيلدت، كاتب السيناريو السويدي الذي كان وراء «الجسر» تحديداً. وهو إلى جانب فريل، استدعى خدمات عدد من الممثلين البريطانيين المحترفين، وأفاد من أجواء لندن، وفي الموسم الثالث بلفاست كخلفيّة للأحداث بكل ما تحمله المدينتان من شخصيّة مكانيّة قويّة، وكُرِّست له بلا حساب كلّ متطلبات المنتج الدرامي الناجح من أدوات السينوغرافيا، والموسيقى، والتصوير والإكسسوارات، إضافة إلى المباني الفخمة والسيارات الفارهة ومشاهد العنف المجاني والجنس والعري (تقضي مارشيلا كثيراً من الوقت في حوض الاستحمام بمناسبة أو بدون). وأضيفت للحكاية أجزاء من السايكولوجيا الغرائبيّة، وملامح لفساد ما، وعلاقات زوجيّة متشنّجة، وخيانات بالجملة، ومراهقون ومعالجون نفسيّون ورجال شرطة مستنفذون وغير ذلك.
مارشيلا، في الموسمين الأولين، كانت محقّقة مع شرطة لندن تتمتع ببصيرة استثنائيّة تسمح لها باصطياد عتاة القتلة المتسلسلين، لكنّها في الوقت عينه تعاني من مصاعب نفسيّة وعصبيّة، وخسرت في وقت قياسي زواجها وحضانة أطفالها ومديرها/ عشيقها الجديد. وفوق ذلك كلّه اكتشفت عبر المعالجة بالتنويم المغناطيسي أنّها متورطة في بعض جرائم القتل، بما فيها قتل طفلتها الصغيرة عندما تقع فريسة نوبات غياب عن الوعي تفقدها القدرة على إدراك ما تقوم به، لينتهي الموسم الثاني مع محاولتها الانتحار، ومن ثم مهاجمة زميلها الذي أنقذها، وتشويه ذاتها، والتيه في قاع المدينة على تخوم الموت.
في الموسم الثالث، كان لا بدّ من إحياء مارشيلا من العدم تقريباً. وبالفعل، نُقل مكان القصة إلى مدينة أخرى تماماً، وغيّرت الشخصيّة تسريحة شعرها وطريقة لبسها، وتحوّلت إلى شرطيّة سريّة شقراء تحمل اسم كيرا، ليست لديها مصاعب نفسيّة أو عصبيّة كثيرة، ومهمتها تتركز حول اختراق عائلة ثريّة تمارس التجارة غير المشروعة وتهريب البشر والمخدّرات، وتستخدم النوم بحماس مع الأعداء (الذكور) لكسب ثقتهم. أما النهاية، فقد كانت أقرب إلى مزحة سمجة استفزّت بقيّة من صمد للحلقة الأخيرة من الموسم.
انحطاط مسلسل «مارشيلا» التدريجي – الموازي لتراجع شعبيته - رغم توافر كل عناصر النجاح، تسبّب فيه فريق العمل ولا أحد غيره، بعدما نسي العنصر الأساس والأهم في العمل الدرامي: الحبكة، التي تظل ـ رغم كل شيء آخر ــ العمود الفقري للحكاية، وينبغي أن توضع كل مدخلات الشّكل وتصاغ في خدمتها، لا العكس، تماماً كما ذهب رائد العمارة الحديثة الأميركي لويس سوليفان الذي كان صارماً في ضرورة أن يتبع تصميم المباني غايتها الوظيفية أساساً قبل العناية بالشكليّات والإنهاء والزُّخرف. حبكة «مارشيلا» من اليوم الأوّل كانت مفتعلة تتقلّب في مكانها من دون تطوّر حقيقيّ، ولم تسمح بمنح الشخصيّات عمقاً، فبقيت مسطّحة وانفعاليّة وغير ضروريّة، وكثرت الثغرات والتحولات غير المقنعة والهنات مع تقدّم السرد. ولم تُعالج أيّ مسألة بأي شكل كافٍ: لا فساد المجتمع، ولا قلّة ذمّة بعض رجال الشرطة ولا وضع البطلة النفسيّ ولا علاقاتها بالمجرمين، ولا دوافعهم العميقة، وفقدنا الاتصال بالشخصيات الأخرى أو هي ظهرت فجأة بدون أن نفهم دورها في الحدث الكليّ (مدمنة هيرويين في الثالثة عشرة من العمر؟ ضرب شخص من خارج سياق القصّة بالكامل بزجاجة شمبانيا حتى الموت؟ منحرف يستمني في العلية؟)... فليكن الربّ بعوننا.
من الصعب القول ما إذا كانت متابعة «مارشيلا» (تتوافر المواسم الثلاثة على نتفليكس) ترفيهاً ما بعد حداثي، تعتمد مشاهده على تقيّؤ جميع العناصر المنقولة من أعمال دراما الجريمة الناجحة فوق حكاية مثقوبة لا علاقة لها بمنطق الدراما، أو هي مجرّد نسخة رديئة ومحاولة مراهقة باذخة لسرقة عناصر نجاح «الجسر». لكنّه في الحالين، مشاهدة غير صحيّة، تبدو أقرب إلى الشراهة التي قد تملأ وقت الضجر لكنّك ما تلبث وتندم عليها في اليوم التالي.

Marcella
على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا