بيلا بارتوك الفنان والمؤلف الموسيقي الهنغاري الثوري الراحل طارد الأفكار والاحلام الموسيقية في كل دول العالم الثالث، لينجز ما لم يستطع غيره فهمه وإنجازه من خلال تعامله المثالي بشغف واحتراف مع الموسيقات الشرقية، سواء الافرو آسيوية منها أو الشرق عربية أو البلقانية التي ينتمي اليها اليوم قسم كبير من بلدان شرق أوروبا . تعامل بارتوك مع موسيقات وفنون هذه البلدان بواقعها الاثني القديم ومواضيعها الفلكلورية الراقصة بطريقة لافتة وغير مسبوقة روحياً ومعنوياً وأخلاقياً!دخلها من أبوابها الواسعة كباحث متمكن منفتح ومرموق ليبَهَرَها كلها بآفاق وتقنيات التأليف الموسيقي المعاصر من دون أي عُقَد فوقية، أو أي اعتبار للتعامل معها بنزعات دونية وخوف من جزيئاتها النغمية الصُغرى (إنترفالاتها)، بل لعله قاربها بكثير من الشغف والحب والاحترام ليدرس مكوناتها المحلية ليعيد وصلها بالحاضر المنفتح على العوالم الصوتية الجديدة لعصرنا بكثير من التواضع والحب. تعامل بارتوك اذن مع دول الشرق الافروآسيوي بوقار وتأمل بحثي ليستلهم كنوزها الاثنية والفولكلورية ويعالج به عناصرها النغمية برؤية علمية خرجت به عبرها متألقة بأنسجة بوليفونية (متعددة الأصوات) جديدة تناسب خصائصها بابتكار بدون أي نية للاستعلاء أو لرفض مكوناتها وخصوصياتها المحلية. وهنا لا بد لي من الاستشهاد بما كتبه بارتوك حرفياً اثناء دراستة لموسيقى شمال افريقيا العربية (واحة بسكرا – صحراء الجزائر وغيرها) اذ قال حرفياً: «في عام ١٩١٢ إكتشفت نمطاً معيناً من لحن ذي تلوين شرقي وزخرفة شديدة، ويُؤَدَّى بصورة مُرتَجَلة لدى رومانيّي مارمور. ثم وجدت اسلوباً مماثلاً في قرية على حدود الصحراء في وسط الجزائر عام ١٩١٣. وبالرغم من التشابه الشديد، فإني لم أتجرأ على استنتاج شيء أكثر من المصادفة، الى أن علمت لاحقاً أن هذا النمط من الالحان موجود أيضاً في أوكرانيا والعراق وإيران ورومانيا القديمة، فلم تعد المصادفة ورادة اذن الآن، فقد إجتاز هذا اللحن العربي الفارسي- كما يبدو- كل هذه المسافة الى أوكرانيا بطريقة غير قابلة للتفسير». (انتهى الاستشهاد). وكتب ايضاً بعد انتهائه من دراسة تلك بما معناه «إن موسيقى الواحة تختلف نوعياً عن الموسيقى العربية في مقاهي المدينة». أحب أن الفت نظر القارئ المهتم انه يستطيع أن يجد ملامح موسيقية عربية جليّة في اعمال عالمية كثيرة لبارتوك اذكر منها مثلاً: الحركة الثانية من متتابعة البيانو المصنفة ١٤ التي صدرت عام ١٩١٦ وايضاً في الحركة الثانية من الرباعية الوترية الثانية (١٩١٥ – ١٩١٧)، وفي بعض ضواحي الباليه الايمائية المسماة «الصيني العجائبي المعروفة بالماندارين»، وفي المتتالية الراقصة ١٩٢٣ ، وايضاً في الاغنية العربية وفي السلسلة ٤٤ من ثنائيته للكمان ١٩٣٠ ، وايضاً في القطعة المسماة: على الأسلوب الشرقي في سلسلة ميكروكوزموس ( ١٩٢٦-١٩٣٧). كل هذة الاستعارات من موسيقانا العربية ألهمته مع غيرها من الاستعارات ذات الملامح الصينية والاندونيسية تزاوجت كلها على يديه بشفافية بدون تصنّع، وجاءت زاهرة بكثير من العفوية وشغف الرغبة الدفينة للإثراء الروحي والإنفتاح بفكر يتمتع بقدرات ومواهب انفرد بها بارتوك عن كل المؤلفين ليفتح بوعيه لها شروط التعميم والإبهار الكوزموبوليتاني. نجحت جهود بارتوك في جعل العالم مكاناً اكثر قرباً وتفهماً وانفتاحاً لبعضه انسانياً ليحتفل بكونيته في الوعي الموسيقي الذاهب الى العوالم الصوتية الجديدة الواعدة التي حاكى بها بارتوك تحديات العصر بجرأة لا تخشى التنافر في الهارموني وهو يتلون ويتطور بانواعه الكلاسيكية الأخرى في عوالم الدياتونية أو الكروماتيكية أو ببقية مفردات اللغات الهارمونية لعوالم الحقبات السابقة من كونتربانط الباروك وصولاً من المقامية الى اللامقامية. كما كانت إنجازاته درساً قاسياً لبعض موسيقيي الشرق الذين يحاكون الغرب موسيقياً بميكانيكية مدرسية لا تأبه لها عوالم التأليف الغربي حيث كانت درساً لهم في أن لا نتنازل عن خصوصياتنا ومرجعيتنا وجذورنا، بل ننفتح عليها برحابة أمام أبواب وأصوات المعاصرة على مصراعيها.
أثرى بارتوك إذن أكثر منجزات العلوم الموسيقية الغربية الاوروبية والاميركية الكلاسيكية التي كانت تبحث عن أفكار وتطلعات جديدة تكسر بها جمودها امام التكرار والصنمية عبر كل مزايا حقباتها، بحثاً عن أصوات التجديد الذي يستجيب لنداء العصر. فرض عليها بارتوك اقتراحاته بالانفتاح على الشرق كمكان جميل يستحق الاحترام وكرافد من روافد وينابيع قادرة على المشاركة بروح التجديد من داخل اجوائها وطموحاتها ومناخاتها الداخلية لتنفتح الموسيقى الغربية الجديدة بها كآفاق جديدة كانت عملياً غير مطروقه سابقاً بهذا التناول الفني الجميل، سواء بروح البحث أو بنموذج روح بارتوك الحضارية التي تحاكيها اليوم خيالات كل المؤلفين الجادين الذين تحولوا عبرها ليستلهموها، فيصبحوا بها أسماء خالدة وهم يبحثون عن ابواب ومصادر تلهمهم من كل العالم والتي قدمها لهم بارتوك جاهزة ليحاكوا بها تطلعاتهم الروحيه للتجديد! بذلك يكون بارتوك قد عمّم نمط تفكير موسيقياً جديداً غدا اليوم تراثاً عالمياً محترماً يحاكيه العقل الموسيقي العالمي الجديد والمعاصر بما جمعه داخله من إنجازات أتت لتجمع بين تجربتة الشرقية وطموحاتة الغربية العالمية. لقد اوجد بارتوك عملياً سلسلة من النغمات تلائم النظام الاثناعشري الأوروبي كما تلائم نغمات سلالم الأنظمة النغمية الشرقية حتى اننا نجد في تنغيم بارتوك الشرقي روح نغمية الموسيقى الاوروبية حتى في توقها الى الاتونال. كما نرى لديه في المقابل أسلوب الشرق المقامي بتأثيرات نظام الموسيقى الشرقية. وهذه الخلاصة ايضاً خلص اليها الباحث المجري المرموق يانوس كارباتي. وأكد علماء الموسيقى المجريون واهمهم أرنو ليندفاي أنّ بارتوك وضع حداً للنغيمات التقليدية وابتكر نظاماً لا علاقة له بنظام شونبرغ الدوديكافوني. لذلك يمكن القول بثقة انه في غالبية موسيقى بارتوك لا يمكن ان نفصل بين الشرق والغرب!
ادناه مقطع فيديو حيث تعزف اوركسترا فيينا الفيلهارمونية بأداء راق وبقيادة لافتة من المايسترو المخضرم الراحل جورج سولتي نماذج مما ذكرته اعلاه يتناول بارتوك من خلالها لوحات فولكلورية شعبية رومانية راقصة متفرقة، شرقية الروح من جهة هويتها وريفية الهوى لجهة طبيعتها اللحنية، عالجها بارتوك بحكمة وموهبة فيها الكثير من الاقتصاد النغمي والانضباط في الهوية الهارمونية والبوليفونية، خصوصاً لناحية التصاقها بطبيعتها الموسيقية التي لا تعرف الثرثرة ولا التصنّع. ارتفع بارتوك بمفرداتها الفولكلورية القديمة ليحولها الى لغة عالمية ساحرة عصرية ومتطورة يحتفل بها اليوم كل العالم بفرح وحب لأنها بقيت تحتفظ بجماليات جذورها وخصوصياتها وانتماءاتها الاثنية بوضوح واعتزاز! اسمعوها بتأمل لتفهموا ماذا أعني بما اثبته بارتوك بانجازاته العظيمة التي ظهر فيها راس جسر تكبر به قدرة الفنانين القادمين من خلفيات ودول ومرجعيات متباعدة عن بعضها موسبقياً فتوفر أمامهم إمكانيات كبيرة لتحقيق التفاعل والتفاهم المطلوب عالمياً اليوم لاحداث التغييرات المطلوبة في سيرورة الانفتاح بمحلية الوعي بالجذور والتاريخ. إن كون بارتوك هنغاري الموطن واللغة (لغته الهنغارية لمن لا يعرف مقطوعة الارتباط والقربى عن لغات كل الدول وخصوصاً جيرانها، وتعتبر مجهولة ووحيدة المصدر لناحية ارتباطها ببقية اللغات، كأنها نزلت من كوكب آخر). مع ذلك لم يمنعه هذا الحاجز الكبير من التفاعل بشجاعة وارادة ثورية لتحقيق الإنجازات الأكثر تطلباً لفهم الغير من الأقرب الى الابعد، والتقارب معهم بشغف لإيجاد القواسم المشتركة الضرورية لتثبيت هذه الروح الضرورية لتحقيق الانفتاح بالوئام والتفاهم الإنساني! علماً أنّ بارتوك كان مشهوراً بروحه الوطنية التي لم تهادن في السياسة مع العدوانية والعنصرية والفاشية. ولم يتخل يوماً عن أقرانه واصدقائه من الموسيقيين الذين شاركوه إنجازاته وهمومه مثل المؤَلَف الموسيقي الهنغاري المرموق زولطان كودالي وغيره حتى عندما حاولت السياسة التفريق بينهما. بهذا المعنى، فإن بارتوك سيبقى الى الابد فناناً وموسيقياً عالمياً مُتفَرِّداً خلّاقاً، وبطلاً استثنائياً قد يصعب تكراره بإنجازاته التي تتضاعف أهميتها اليوم بالذات، حيث تنتشر روح الهبوط والسوقية والتفاهة التي تسيطر اليوم على كل العالم وبالأخص عالم صناعة الفن الممسوك بشركات الإنتاج والميديا العالمية التي أسست بتعميم الهبوط للتباعد والفوقية والعنصرية وروح التملك والعدوان، وكله بقيم المال وراس المال الامبريالي التابع للرأسمالية المتوحشة. إن مؤسسات تعمل بمعايير تزييف القيم الجمالية الحقيقية السامية مثل «ستار اكاديمي» و«ذا فويس» وما تفرخه من مثيلاتها والتي أوجدت لها ما يقابلها بأسوأ منها في العالم العربي مثل «روتانا» واخواتها والتي تمولها أنظمة البترودولار بكرم طائي يهدف لمحاربة الفن الحقيقي النبيل والخلاّق الذي يدعو للتغيير والارتفاع بالوعي الإنساني الجمعي الى الارقى والاجمل في تعميم القيم الجمالية السامية التي دفعت الانسانية في سبيله الكثير من الجهود والتضحيات والشهداء عبر تاريخ صراعها مع الجهل والظلام، لتصل الى منجزات بعينها يعرفها الفنانون الحقيقيون والتي تتم اليوم عمليات إهدارها علناً بصفاقة واستهتار ودم بارد!
بناء على هذه الحقائق سيبقى بارتوك مؤلفاً خارقاً وباحثاً استثنائياً وفناناً ذا شخصية كوزموبوليتانية لا مثيل لها، وينبغي دائماً استلهامه والإضاءة عليه باستمرار كنموذج انساني تستحضره الثقافات محلياً وعالمياً. لم يعد يختلف اليوم اثنان من العارفين على كونه قامة قد تكون غير قابلة للتكرار أو المقارنة بشخصية أخرى عندما يوضع في سياق أهمية ما قدمه للانسانية في باب التقارب الموسيقي. ولا يخفي كاتب هذه السطور إحساسه بأنّ التعتيم عليه وعلى معاني إنجازاته ربما يكون مقصوداً ومتعمداً حتى في الأوساط الاكاديمية والعلمية العالمية التي تروج لنزعات التفوق والسوبرمانية في الثقافة والفكر الغربيين! يجب الإضاءة عليه إذن من باب أهمية إنجازاته بتثبيت الاحتفال العالمي به وشرح دوره الإنساني لمصلحة استمرار سير المعرفة متدفقة ومُعَممة كما فهمها بارتوك بعيداً عن المؤسسات الخاصة التي لا تتصل افقياً بما يمثله بارتوك كروح ثورية عملت بتفان وإخلاص لتعميم التقارب والمحبة في سبيل السلم والتقدم الانسانيين. وهذا بصراحة وكما اعتقد، أهم ما يحتاجه العالم اليوم اكثر من أي وقت مضى. فهل يسمع من له عقل وادراك يتسع لما يحتاجه العالم اليوم من سماحة وحكمة وكفاءة وانفتاح وبُعد نظر!
https://youtu.be/vsGDYcbANGg