نزيه خاطر الرجل ذو الكاسكيت الأبديّة الذي تعرفه صالات المسرح والغاليريهات، وتعرفه جيّداً المقاهي القديمة في الحمراء (أو ما تبقّى منها)، كان أحد حرّاس الزمن الجميل في بيروت. المدينة الحالية لا تتعرّف على أولئك الذين عاشوا، مثل نزيه خاطر، أزمنة الحلم والريادة والتجريب والحداثة والتغيير. لكنّ بيروت الأخرى، السريّة، تعرفهم واحداً واحداً، تحتفظ جيّداً بكل ما كتبوه وقالوه وأبدعوه ودافعوا عنه وقاتلوا من أجله. جيلنا مدين لهم بالكثير، نجاهر بذلك في زمن الارتزاق والجحود وفقدان الذاكرة.
بيروت تحفظ حكاياتهم ومقالاتهم وإنجازاتهم، بل خناقاتهم وطرائفهم، من «الاكسبرس» إلى «كافيه دو باري»، ومن «المودكا» إلى «الويمبي» اللذين تحوّلا ذات يوم خندقين متواجهين في حرب ثقافيّة بلا هوادة. كان زمناً صعباً وجميلاً يا نزيه، لكنّنا لن نستسلم الآن للحنين. هناك حولك حفنة من الزملاء والقرّاء والخصوم القدامى والأصدقاء والتلاميذ، سينهون مراسم الجنازة ويغادرون. نرفع لك قبّعتنا، معترفين بالجميل على كل ما فعلته للحركة الفنيّة وللنقد، وما قدّمته من أسماء وتجارب في «النهار» تحديداً بما كانت تمثّله. نعتذر لأنّنا تركناك خلال السنوات الأخيرة، في عزلتك، في دائرة صغيرة من بيروت، جمهوريّتك الفاضلة. لقد طرحت أسئلتك الحادة منذ الستينيات، واكبت كالحرفيّين أجيالاً من المبدعين في مجالات الفنون المشهديّة والبصريّة. أرّخت لعصر، وأسست لطريقة مختلفة في الكتابة وممارسة الصحافة الثقافيّة.
هناك ميزة في صحافتنا الثقافيّة، رغم عوارضها الجانبيّة: معظم العاملين فيها، شعراء وأدباء ومبدعون، يحققون أنفسهم عبر أشكال أخرى، خارج الصحافة وخارج النقد. نزيه خاطر لم تكن لديه مشاغل أخرى. إنّه الشاهد المجرّد. دخل في مشاريع كتب، لكنّه عدل عنها. ربّما لأنّه أدمن رصد العابر والزائل، وجعل من حياته كمشاهد محترف، مهنة قائمة بذاتها. كان لديه أيضاً إحساس بالمرارة واللاجدوى، وهو يراقب الأزمنة تتحوّل، ونقاط الارتكاز تنزلق، والمدينة تغيّر وجهها والعالم يضيق والقبيلة تنكمش. بعد صدور «الأخبار»، في ذلك المقهى المتأمرك الذي كان يوماً الـ«هورس شو»، سلّم بحرارة وهنأنا على التجربة. ذكّرنا بأن «ثقافة وناس» عنوان برنامج ثقافي مجدِّد أطلقه على «تلفزيون لبنان» أوائل الثمانينيات، وورّط فيه، بين آخرين، الصحافي الشاب الذي كانه كاتب هذه السطور. سيبقى اسم نزيه خاطر مرادفاً للطليعيّة والتجديد.