بعضُ النصوص الأدبيّة لا تُقرأ على عجل، بل إنّ القراءة الأولى تكاد تكون مجرد فاتحة للإمساك بمضمون النص كحكاية. لكنك بعد أول قراءة، تذهب بعيداً إلى تأويلاته وما يفتحه للقارئ من أسئلة ومواضيع مسكوت وغير مسكوت عنها. مواضيع تتداخل، لتتشكل في هيكل ثابت قوامه نص واحد. برغم قِصره، هو مثل جرعة الدواء لا يمكن أن تدرك نتائجه للوهلة الأولى، بل تتماثل لفهمه رويداً رويداً. نصٌ متماسك مكتوب بلغة قوية، ذو محمولات وطروحات فكرية متعددة، ليست متاحة لمن اعتاد أن يقرأ وفقط. نصٌ يدعوك لأن تتجهز بكلّ أسلحة الفهم والوعي لإدراكه بفطنة وذكاء. نصٌ يحاول مع كل فكرة أن يولِّد لك أفكاراً أخرى، فهو لم يُكتب كي يرضيك. من يريد أن يقرأ نصاً على شاكلة مسكنات الألم، لا ننصحه بهذا النص التجريبي بامتياز، السيري بجدارة، المربك بكلِّ روافده. نحن هنا أمام نصٍ مابعد حداثي مرهص بعنوانٍ مُلفت هو «أحجية ادمون عمران المالح» (هاشيت أنطوان).تُرى ما المقصود هنا بالأحجية؟ هل هي تلك الأحاجي التي اعتادت الجدات في الصغر أن يحكينها لنا أمّ أنّ النص يتحدث عن أجحية سردية من نوع خاص؟! ولماذا تحديداً ادمون المالح؟
وما علاقته بالجوائز الأدبية وزيفها على المستوين العربي والعالمي، ولماذا طرح مشكلة الهولوكست واليهود الذين هجروا قصراً من المغرب؟.
وما قصة بطل الرواية؟ وأين الكاتب محمد سعيد احجيوج من كلّ هذا؟ كيف تمكَّن في هذه الرواية القصيرة بعدد صفحاتها، الكبيرة بأفكارها ورؤاها أن يُلمَّ بكلِّ هذا من دون أن تفلتَ منه خيوط هذه الأحجية؟ من خلال العنوان، تحاول أن تقول لربما النص سيرة للكاتب إدمون المالح (1917 ــ 2010). لكن عندما تقرأه، تعرف أنه سيرة غير معتادة، ذو حبكة قوتها في كونها غير مفهومة. نصٌ لا يمكنك قراءته إلا متشظياً لتتمكن من فهم الأحجية.
التشظي قي هذا النص هو أصل الحكاية، ككلِّ شيء في الحياة التي تربكنا دائماً بما نعتقد أننا نفهمه. نصوص مماثلة تُتعبك لتصل إلى رافد الرواية، فهي تشبه لعبة الـ puzzle، وبطبيعة الحال غير متاح لقراء «الفاست قراءة» ممّن اعتادوا أن يعطيهم الكاتب كلّ شيء ويفكر مكانهم أيضاً.
ومن باب الإنصاف، يجب القول بأن هذه الرواية من الإصدارات الأكثر تميّزاً هذه الفترة. هذا الحكم يأتي انطلاقاً من قراءات موازية لأعمال تطرقت إلى قضايا مشابهة كموضوع اليهود المغاربة والهولوكست وما شابه. لكن ميزة هذه الرواية أن موضوعها غير واضح أو لا يمكنك أن تفهمه من خلال ما هو مدوّن في صفحاتها، بل يجب عليك أن تجتهد لتفهم النص، وقد يكون فهمك له من رؤيتك أنت لا غيرك، وهنا تكمن أحجيته التي هي عبارة عن سلسلة أحاجي.
قد تحكم على النص بأنه مؤيّد للصهاينة، حين تقرأ ما يقوله الروائي «قبل الحرب المجيدة، لم يكن أحد منا ليجرؤ على ذكر إسرائيل بالاسم، خوفاً ربما من وسم جيراننا لنا بالصهيونية (وهي كلمة لم أكن أحيط علماً بمعناها آنذاك)». يبرز لنا أيضاً افتخار الراوي بعبريته، إذ يقول: «كنت، رغم كل شيء، فخورًا بأول جملة فصيحة أنطقها بالعبرية في أرض إسرائيل. في أرض الوطن».
لكنك عندما تعود للنص والعنوان تحديداً، الذي هو عبارة عن سيرة مخيالية لشخصية حقيقية هو الصحافي والروائي المغربي اليهودي ادمون عمران المالح، المعارض لفكرة إقامة دولة اسمها إسرائيل وللصهاينة، وهو القائل: «لا أعرف أي دولة اسمها إسرائيل» والمندد أيضاً بفكرة تهجير اليهود المغاربة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة... عندما نقرأ سيرة هذا الرجل وعمله كصحافي، ونقرأ الرواية، نشعر أن الأخيرة تتماهى وإدمون عمران المالح، وتحاول أن تحاكي جانباً من حياته، لكن للرواية جوانب أخرى فلا تكاد تفهم فكرة ما حتى تليها فكرة أخرى وهكذا دواليك.
هناك روايات جيدة مثل هذه الرواية، تعيد صياغة الأسئلة الراهنة وتحاول أن تكون عقلانية في طروحاتها ولا تنحاز للعاطفة، بل تنحاز للأدب وللإنسان وللمنطق.
أما من حيث اللغة والنص، فبناء الرواية متكامل، وعلى الرغم من حجم الرواية القصير جداً، إلا أنها قالت ما لم تقله الروايات المترهلة، دخان اللغة.
هكذا هو الأدب الجيد وهكذا هي «أحجية ادمون عمران المالح»، فيا ترى ماهي أحاجي إنسان اليوم وما حاجته لأن يفهم هذه الأحجية؟