رحلت قبل يومَين المغنية الألمانية كريستا لودفيغ عن 93 عاماً. إنها إحدى عميدات الغناء الأوبرالي ومسيرتها امتدّت لعقود، حيث اعتلت مسارح أهم دور الأوبرا في العالم وعملت إلى جانب وتحت قيادة أساطير سبقوها إلى العالم الآخر على رأسهم هربرت فون كارايان وكارل بوم وأوتو كلامبرر وغيرهم. لودفيغ المصنّف صوتها ميتزو سوبرانو غنّت معظم الأدوار الكبيرة الخاصة بفئتها الصوتية، لكنها غطّت أيضاً كامل الريبرتوار الغنائي الكلاسيكي، من الأعمال الإنشادية الدينية إلى الأغنيات (ليدر)، كما غطّت، من جهة ثانية، جميع الحقبات، من مطلع القرن الثامن عشر (عصر الباروك) حتى القرن العشرين، ومن جهة ثالثة، طاولت تجربتها معظم أغصان الريبرتوار جغرافياً ولغوياً، أوّلها الجرماني (بالشقّين اللغويَّين الألماني والإيطالي) والإيطالي والأميركي والفرنسي. لكنّ مساهمتها الكبرى تبقى في الريبرتوار الجرماني، الألماني من باخ إلى بيتهوفن وفاغنر وبرامز وريشارد شتراوس، وبعده النمسوي من هايدن إلى موزار وشوبرت ومالر. مع كارايان لها تسجيل شهير لـ «القدّاس الاحتفالي» لبيتهوفن إلى جانب عمالقة آخرين هم فريتس فوندرليش وغوندولا يانوفيتس وزوج الراحلة، الباص باريتون النمسوي فالتر بيري (1929 — 2000)، كما ظهرت في نسخة مصوّرة مذهلة للسمفونية التاسعة (1968) لبيتهوفن، شارك فيها زوجها أيضاً (إذ كان أحد الأصوات المفضّلة عند كاريان في مرحلة الستينيات). وقبل ذلك، جمع القائد الأسطوري الحبيبَين في الحياة بدور الأعداء على خشبة الأوبرا، في العمل الوحيد من هذه الفئة لبيتهوفن، «فيديليو»، حيث لعبت لودفيغ الدور الرئيسي، أي «ليونور» المتنكّرة بزي رجل (تحت اسم «فيديليو»، ولعبت دوراً آخر من النوع نفسه هو «أوكتافيان» في «الفارس ذو الزهرة» لريشارد شتراوس ودائماً بقيادة كاريان) لإنقاذ زوجها «فلوريستان»، السجين السياسي الذي يقبع في سجنٍ بإمرة الظالم «بيتزارو» الذي يلعب دوره فالتر. مع كلامبرر سجّلت لودفيغ «الآلام بحسب إنجيل متى» لباخ، الذي سجّلت له «أوراتوريو الميلاد» لكن هذه المرّة مع الملك في أداء ريبرتوار كانتور لايبزغ، الألماني الراحل كارل ريشتر، وكذلك إلى جانب يانوفيتس وفوندرليش، التينور الألماني الكبير الذي خانه شريط حذائه فقتله بعمر موزار. للأخير حصة في ريبرتوار كريستا لودفيغ، حيث أدّت دور «دورابيلا» في «كوزي فان توتّه» («هكذا يفعَلن كلّهُن») بقيادة كارل بوم الذي أنشدت تحت قيادته أعمالاً لمالر (نشيد الأرض) وفاغنر وغيرهما، وأيضاً لموزار، «القدّاس الجنائزي» في تسجيل مصوَّر شهير (1971)، العمل الذي أدّته مرّة ثانية في تسجيل مرجعي (1978) مع الإيطالي، عاشق موزار والأطفال، كارلو ماريا جيوليني الذي أنشدَت تحت قيادته قداساً جنائزياً آخر، ذاك الذي يحمل توقيع مواطنه فيردي. في عالم فاغنر كان للراحلة مساهمة أساسية، تحت قيادة خبيرَين بالمؤلف الألماني، كارايان (تشارك في الجزء الرابع من «الخاتم»، وهو أوبرا من أربعة أجزاء مدّته حوالى 15 ساعة) وجورج شولتي، الفاغنيريّ الشهير، حيث أدّت تحت قيادته دور «فريكا»، آلهة الزواج وزوجة «فوتان» في «الخاتم» ودور «فينوس» في أوبرا «تانهُويْزر». بالإضافة إلى اهتمامها بالريبرتوار الكلاسيكي من الباروك إلى نهاية الحقبة الرومنطيقية، حيث نذكر أيضاً تركَتها في مجال الليدر عند شوبرت وشومان وبرامز وغيرهم، لم تمتنع لودفيغ عن المساهمة في التيارات الحديثة والتجارب الجديدة. هكذا غنّت لألبن بيرغ من مدرسة فيينا الثانية وشاركت في أوبيريت «كانديد» (مبنيّة على الرواية الفلسفية الشهيرة لفولتير) للمؤلف وقائد الأوركسترا الأميركي ليونارد برنشتاين، في تسجيل لا منافس له بقيادة المؤلّف.