يلازم المفكّر هشام جعيط منذ أيّام الفراش في بيته في ضاحية المرسى شمال العاصمة تونس. مرض جعيط (مولود في تونس العاصمة عام 1935) أصبح حديث الشارع الثقافي والأكاديمي في تونس، فجعيط خريج السوربون أشهر جامعات أوروبا، التحق بالتدريس في الجامعة التونسية منذ سنة 1962 في بدايات تأسيسها. وطيلة هذه السنوات تتلمذت أجيال من الجامعيين التونسيين على يديه في اختصاص الاسلام المبكّر الذي يعد جعيط من مؤسسيه، بل مؤسسه الأساسي. ومعظم أساتذة الجامعة التونسية في هذا الاختصاص اليوم هم من تلاميذه أو من تلاميذ تلاميذه. وقد كانت إسهامات التونسيين في هذا الباب كبيرة ولافتة. يكفي أن نذكر بعض الأسماء مثل عبدالمجيد الشرفي، وحياة عمامو، وسلوى بالحاج صالح، وبثينة بن حسين، وآمال قرامي، ونائلة بن حسين، وناجية الوريمي، وزهية جويرو، وزينب التوجاني، وألفة يوسف، ورجاء بن سلامة، ونادر الحمامي، وآمنة الجبلاوي وغيرهم. كانت أعمالهم تنويعاً وتعميقاً للأسئلة التي طرحها هشام جعيط في تعاطيه مع النص القرآني والشخصية المحمدية وتفكيكه لخطاب المستشرقين.كانت المسيرة العلمية لهشام جعيط الذي كان والده من شيوخ الجامع الأعظم (جامع الزيتونة) الشيخ عبدالعزيز جعيط، قد انطلقت بالتوازي مع إعداده أطروحة الدكتوراه في جامعة السوربون حول نشأة مدينة الكوفة في القرن الأول الهجري تحت اشراف المستشرق الفرنسي كلود كاهن (1911-1990). استغرقت الأطروحة منه سنوات طويلة من البحث، لكنّ الاسهام المرجعي الذي يتم اعتماده اليوم في معظم الجامعات وقد أصدره في البداية باللغة الفرنسية، يتعلق بالفتنة الكبرى، «جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر» الذي صدر في طبعة أولى في بيروت سنة 1990.
جعيط الذي يعيش في عزلة منذ غياب زوجته، سعى منذ البداية إلى التحرر من قناعاته الدينية في تناوله للمسائل التاريخية. يقول في الجزء الثاني من كتابه «في السيرة النبوية: تاريخية الدعوة المحمدية في مكة» (دار الطليعة، بيروت في طبعته الأولى 2007) على المؤرخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الدينية عندما يدرس بزوغ الاسلام. فالحقائق الدينية يتناولها بالوصف والتحليل، بالبحث في التأثيرات والتطورات، ويضعها في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني: «هذا هو المنهج الذي سعى جعيط إلى تكريسه في دراسته للاسلام المبكر والشخصية المحمدية. وقد اعتبر أن العالم الأسلامي يعاني أزمة هوية بسبب عدم الفصل بين «الإيمان» كمعطى روحاني، وبين التاريخ كوقائع يلعب فيها البشر الدور الأساسي.
ويرى جعيط أن نقد الاستشراق ليس له معنى طالما لم يقم العرب والمسلمون بـ «اكتشاف ماضيهم بأنفسهم باتخاذ المناهج المعترف بها عالمياً». وظل رهان جعيط هو التعاطي مع التاريخ كـ «علم». ففي مشروعه «السيرة النبوية» الذي صدر في ثلاثة أجزاء، اعتبر أنّ هذا المبحث هو مشروع علمي «فهذا الكتاب وما سيتبعه كتاب علمي وليس بالدراسة الفلسفية».
لقد سعى هشام جعيط إلى دراسة الاسلام المبكر والشخصية المحمدية والتقاطعات التي حدثت بعد وفاته في ما يعرف بالفتنة الكبرى التي يعتبرها جعيط العنصر الأساسي الذي صاغ العقل السياسي العربي. كما اعتبر أن الأسلام هو المكون الأساسي للشخصية العربية وللَمخيال العربي الاسلامي.
ورغم تعدد العناوين التي أصدرها جعيط، فإن الرابط الأساسي بينها هو صدى الاسلام المبكر في الشخصية العربية. وقد تعددت أعماله من «الفتنة الكبرى» إلى «في السيرة النبوية» في ثلاثة أجزاء إلى «الشخصية العربية الإسلامية» و«المصير العربي» و«أوروبا والاسلام» إلى «أزمة الثقافة العربية الإسلامية» و«نشأة المدينة العربية الإسلامية الكوفة» إلى «تأسيس الغرب الاسلامي» وأحدث أعماله صدر منذ أيام باللغة الفرنسية في باريس وتونس بعنوان «التفكير في التاريخ، التفكير في الدين».
ورغم اهتماماته وانشغالاته الأكاديمية، لم يغب جعيط عن الشأن العام. كان يدلي بمواقفه بجرأة كبيرة حتى إنّه نال نصيبه من غضب السلطة زمن بن علي وتمت محاكمته بسبب مقال في مجلة أسبوعية. وقد رفضت وزارة التعليم العالي سنة 1995 التمديذ له في التدريس وتأطير طلبة الدراسات العليا في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية في تونس عقاباً له على مواقفه من النظام.
يبتهل تلاميذه ومحبّوه من أجل الشفاء لأب دراسات الاسلام المبكر في الجامعة التونسية بعد إصابته بأمراض متزامنة بعد سنوات من التدخين.
يذكر أن هشام جعيط كان أول رئيس منتخب للمجمع التونسي العلوم و الآداب والفنون «بيت الحكمة» سنة 2012. وهو المنصب الوحيد الذي تولاه في مسيرته العلمية الطويلة.