صدر أخيراً تسجيلٌ غير متوقَّع وطبيعي في آن، لعازف البيانو الكلاسيكي اللبناني/الفرنسي عبد الرحمن الباشا (1958). ديسكٌ دسِم يحوي قمّة إبداع شوبان في فئتَين هما البالّاد والسكيرزو (عند الناشر الفرنسي المرموق Mirare). المؤلف البولوني كتب أربعة نماذج في كلٍّ من الفئتَين وتسجيل الباشا يشمل المقطوعات الثمانية، مع الإشارة إلى أنه قدّمها في أداء حيّ (وهذا وحده حدثٌ كبير) ضمن «بيروت ترنّم» في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما واجهته مجموعة من الناشطين لتسجيل اعتراضها المحقّ من دون تحفّظ على رعاية أحد المصارف للأمسية. علماً أن الباشا، كما علمنا لاحقاً، كان هنا فقط للتضامن مع مواطنيه بعد انفجار المرفأ ولم يتقاضَ أي أتعاب مقابل مشاركته، ويمكن اعتبار أن المجموعة أخطأت العنوان بين مربط البيانو ودارة آل صحناوي.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
إذاً، هذا الإصدار نصفه لأنه غير متوقّع، فهو يطال عناوين سبق للعازف العالمي أن أدّاها ونشرها قبل أكثر من عشرين عاماً ضمن إنجازه الضخم الذي تمثّل في تسجيل كل أعمال شوبان، معتمداً في ذلك الترتيب الكرونولوجي للتأليف، في سابقة ديسكوغرافية لم تتكرَّر (على حدّ علمنا). في الوقت نفسه، هو إصدار طبيعي، إذ ليس من النادر أن يعود موسيقيون (بالأخص عازفي البيانو وقادة الأوركسترا) إلى عملٍ سبق أن سجّلوه. لكن لماذا يفعلون ذلك؟ الأسباب متعددة، أبرزها، مثلاً، تطوّر كبير في تقنيات التسجيل، كما حصل بعد النصف الثاني من الخمسينيات، عندما وُضعَت في الخدمة تقنية الـ«ستيريو»، فعاد موسيقيون إلى عملٍ سبق أن سجّلوه بتقنية الـ«مونو»، أو مطلع الثمانينيات عندما حصلت النقلة من التسجيل الأنالوغ إلى التسجيل الرقمي وولادة القرص المدمج (CD).
سبب أساسي آخر هو نضوج الموسيقي ورغبته في تقديم رؤية أخرى عن تلك السابقة (بعد مرور وقت يبرّر ذلك) كما حصل، كي نذكر أشهر الأمثال في هذا السياق، مع عازف البيانو الكندي غلن غولد الذي سجّل «تنويعات غولدبرغ» عام 1955 ثم عاد إليها بمقاربة مختلفة، جذرية أحياناً، عام 1981. ويحصل ذلك حصراً في الأعمال الضخمة، التي يمكن فهمها أكثر مع الوقت، إذ تكون من النوع الذي لا حدود لعمقه، علماً أن النتيجة لا تكون بالضرورة أفضل، وأحياناً لا أفضل ولا أسوأ، بل فقط مختلفة (غولد/«تنويعات غولدبرغ» أيضاً مثال على ذلك). المستحيل هو أن لا وجود لتسجيلَين متطابقَين ولو بتوقيع اسم واحد. في حالة جديد عبد الرحمن الباشا، مسألة الصوت والتسجيل غير مطروحة، أو على الأقل غير أساسية. فبين التسعينيات واليوم، لم يشهد عالم الصوت انتقالاً جذرياً إلى تقنية جديدة في التسجيل، بل على العكس، فقد حصل بعض الحنين إلى تقنيات قديمة. بالتالي، يبقى السبب وراء العودة إلى شوبان الرغبة في تقديم رؤية مختلفة، وهذا مبرّر تماماً في حالة هذه الأعمال الفائقة العمق والتنوّع (ضمن المقطوعة الواحدة) في ريبرتوار شوبان. وهذه ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها الباشا إلى هذا الخيار، إذ سبق أن «عاد» إلى سوناتات بيتهوفن الـ32 وسجّلها من جديد (صدرت عام 2013) بعدما كان قد فعل ذلك مرةً أولى بين الثمانينيات والتسعينيات.
تجتمع المقطوعات على المساكنة بين التأمل والشعر والحزن والاضطراب والهجومية والجنون


إذاً، على غرار بعض زملائه الذين جمعوا هاتَين الفئتَين في ديسك واحد (إيرل وايلد، سيفن هاف،…)، يصدر عبد الرحمن الباشا مقطوعات شوبان الثماني الأصعب من الناحيتَين الأدائية والتقنية، وهذا حدثٌ مهمّ في عالم الموسيقى. أما مقارنة الباشا بنفسه، فتفضي إلى بعض الملاحظات أبرزها أن العازف اللبناني يضع دقيقة إضافية تقريباً (أقل بقليل أو أكثر بقليل) في كل مقطوعة، ما يوحي، في الشكل، أنه اختار سرعة إيقاع أبطأ من السابق، وهذا غالباً ما يحصل مع الموسيقيين مع تقدّمهم في السن، لكن هذه ليست قاعدة طبعاً. عند الاستماع، نشعر بنسبة عالية من التصرُّف العام، بدل أن نشعر بهذا البطء بشكل معمَّم. ولهذا سبب أساسي هو توزيع هذا التبطيء على كامل المقطوعة في أماكن تسمح بما يسمّى بالـ«روباتو» (أي التلاعب الإرادي والآني بسرعة الإيقاع لدواع تعبيرية فقط)، وما أكثر هذه الأماكن عند شوبان وبالأخص في البالّادات والسكيزوهات.


في هذا الاتجاه أيضاً تعمل مساحات الصمت (التي تسمح بإطالتها وبتقصيرها حسب الرغبة والإحساس). من جهة ثانية، الدخول في التفاصيل الأدائية لهذا التسجيل بشكل مستقل أو بالمقارنة مع التسجيل السابق للأعمال نفسها بتوقيع الباشا، مسألة تتطلب مساحة كبيرة وتعقّد الأمر على القارئ في هذه الظروف التي يوجَّه فيها الدماغ وتسخَّر طاقاته لتأمين لقمة العيش. بالتالي، سنكتفي بالعموميات: أولاً، يجب القول إن جديد الباشا لا يلغي قديمه ولا يسقط تحته. بمعنى أن له نقاط قوّته (الصوت أنظف بقليل) ونقاط ضعفه النسبية (أحياناً بروز «التفكير» في الأداء ما يؤدّي إلى مبالغة في التصرُّف، مقابل العفوية التامة والأمانة للمدوّنة في السابق) تماماً كما للتسجيل الأوّل إيجابيات وسلبيات. ثانياً، هذه المقطوعات فيها قاسم مشترك هو المساكنة بين التأمل والشعر والحزن (أحياناً في وسطها وأحياناً في أطرافها) والاضطراب والهجومية والجنون (أيضاً في وسطها أو في أطرافها)، والباشا يعطي النَفَس الأول حقه أكثر في التسجيل الجديد (وهذا ما يجلبه النضج والخبرة)، بينما هناك تساوٍ عام في النفس الثاني بين التسجيلَين، إذ تميل دفة قوّته تارةً نحو الجديد وطوراً نحو القديم. أما أحد الفوارق الأساسية بين النسختَين فهو البيانو نفسه، إذ اعتمد عبد الرحمن الباشا الـ «بكشتاين» (صانع ألماني) مقابل الـ«شتاينواي» (أيضاً ألماني) في التسجيل القديم. الأول، ورغم أناقته ودقته العالية وعودته إلى الساحة الموسيقية بقوة في السنوات الأخيرة، لا يتمتّع برواج الثاني في الأوساط الكلاسيكية. لكن الآلة التي يستخدمها الباشا اليوم ممتازة لناحية دفئها وتناسقها على كل الأصعدة، باستثناء المنطقة الواقعة بين المفاتيح الوسطى وتلك العالية، إذ يغلّف نبرتها نوع من البريق المعدني (في العزف القوي أو «فورتِه») الذي قد يعجب البعض أو يزعج البعض الآخر. لكن الثابت يبقى أن عبد الرحمن الباشا هو عازف بيانو الأغزر في لبنان والوطن العربي، ومن الأغزر في العالم، وهذه الغزارة تنمّ عن ذاكرة هائلة وتقنيات استثنائية. أما النتيجة فتكون إمّا مقبولة وإمّا محترمة وأحياناً ممتازة، لا بل أكثر من ذلك، مرجعية على مستوى الديسكوغرافيا الكلاسيكية حيث المنافسة طاحنة لا ترحم.