في خطوة جديدة على درب القصَّة القصيرة التي تُنازع الرواية على قلم محمد جعفر المفتون بالسرد بمختلف أشكاله، وبعد «ابتكار الألم» (منشورات «ضفاف» اللبنانيَّة و«دار الاختلاف» الجزائريَّة/ 2018) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «الملتقى» في دورتها الثالثة، صدرت للقاصّ والروائي الجزائري مجموعة جديدة أخيراً بعنوان «بطعم الفانيليا». المجموعة الصَّادرة بالشراكة أيضاً بين «دار فضاءات» الأردنيَّة و«دار أجنحة» الجزائريَّة في خطوةٍ اعتادها الكُتّاب الجزائريّون في محاولتهم التحايل على سوء التوزيع وتعطيل التصدير بقوانين غير مفهومة لا يُعاد النظر فيها، تضمّ 15 قصَّة متفاوتة الطول، وتقع في 140 صفحة من القطع المتوسط.
وبالمرور على العتبة الأولى المتمثّلة في العنوان اللافت لتمايزه عن العناوين الفرعيَّة للقصص وغيابه تماماً عن مضامينها، تبدو العودة ضروريةً إلى كلامٍ للكاتب نفسه في مقابلة أجريَت معه: «لماذا بطعم الفانيليا؟ لأنَّه طعمٌ يتميَّز بالاعتدال حتى لا أقول إنَّه طعمٌ مهادن، وهو كثيرًا ما يستجيب للأذواق جميعها، ويعكسُ بشكلٍ ما خطة العمل على المجموعة. فهو أيضًا وعلى عكس تجربتي السَّابقة (ابتكار الألم) التي تميَّزَت بخصوصيَّة معيَّنة وحادَّة، جاء استجابةً لأذواقٍ متباينة، ومن هذا الباب فإنّي راعيتُ التنويع كأولويَّة قصوى».
ورغم هذا الاختلاف، فإنَّ «بطعم الفانيليا» تبدو امتداداً لـ«ابتكار الألم»، إذ يحافظ فيها محمد جعفر على وفائه للقصَّة القصيرة بشكلها التقليديّ الأجمل القائم على الحبكة الشائقة والنهاية غير المتوقَّعة متجنّباً الإيغال في الغموض العبَثي بحجَّة الحداثة والتجريب، وإن كانت قصص المجموعة وكتابة محمد جعفر عموماً لا تخلوان من هذَين الأخيرَين.
وكعادته أبدع الكاتب في بناء شخصيَّاته رغم صعوبة الأمر في مساحةٍ ضيّقة كالقصَّة القصيرة قياساً إلى الرواية. ونتحدَّث هنا عن بنائها من الداخل وعن سماتها النفسيَّة المرتبطة تماماً بتصاعد الحدث الذي يتمحور حولها، لا عن الاكتفاء بوصف مظهرها الخارجي، ويظهر ذلك مثلًا في قصَّة «بوخبزة» حارس فيلا السيدة فوفا الذي بالكاد يستطيع احتمال بخلها الشديد وطلباتها الكثيرة وجهامتها التي قد تنطوي على إشارات لم يحسن التقاطها. وأيضاً في «قصَّة جديرة بأن تُروى» التي يذهب بطلها في شغفه الطارئ بالكتابة وسعيه المحموم لمنافسة صديق طفولته الكاتب الكبير عزوز المدكّ، إلى حدّ التخلي عن أشياء كثيرة مقابل أن تكون له حكاية تستحق أن تُروى، ولو انطوت هذه الحكاية على هزيمة أمام عزوز نفسه في ميدانٍ آخر! وقصَّة «واحد منّا» التي تبدو صادمة بقدر ما هي واقعيَّة في تناولها مسيرة بعض الطارئين على السياسة انطلاقًا من قاع المجتمع مروراً بأقذر مسالكه. كما تحضر في المجموعة المرأة شديدة الغيرة التي تنتظر عودة زوجها من عمله كي تباشر التحقيق معه حول أدقّ التفاصيل حتى تكاد تفرّق شمل عائلتها الصغيرة وترمي بييتها في مهاوي التعاسة من خلال قصَّة «نوبة الخروج»، و«مرزاقة» المرأة التي تنتظر زوجاً لم يحضر بعد أصلًا وقد جاوزت الثلاثين، وحين تحظى به ولا يفرّ كالآخرين من لثغة لسانها تتخلى هي عنه بعد أسبوع واحد لإصابة عملٍ مباغتة قصمت ظهره فأعجزته عن ارضائها، والطبيب الذي يبالغ في مراعاة مصلحته الخاصَّة على حساب رسالة الطبّ السامية في «جو سوي مِيدسان»، وغيرها من المواضيع والقضايا التي يعالجها جعفر بسرده الممتع بعيداً من الوعظ والمباشرة. وإذا كان القارئ ممن يحبّون انتخاب القصَّة الأجمل في كل مجموعة يقرأونها، فيمكن القول إنَّه سيجد صعوبةً في المفاضلة بين قصص هذه المجموعة. وإن كانت فيها قصَّتان أقرب إلى القصص القصيرة جدّاً لم تسمح مساحتهما للكاتب باستعراض مهاراته في السرد، فجاءتا دون مستوى بقيَّة قصص المجموعة («رسالة»، و«براءة»). أمَّا القصَّة الأخيرة «رجلٌ بلا ذاكرة» التي يسمّيها الكاتب «متوالية قصص قصيرة جدّاً»، فهي أقرب إلى كونها قصَّة مقسَّمة إلى 12 جزءًا من كونها «متوالية» من حيث عجز كلّ جزء من أجزائها الإثني عشر عن تشكيل وحدة نصيَّة مستقلة قادرة أن تخلّف في القارئ أثرًا مماثلًا إذا ما قرأها منفردة.
وإذ تتأمّل صورة الغلاف، قبل انغماسكَ بالقراءة، وهي تظهر رجلًا يطعمُ امرأةً بيده وبينهما ثلاثة عيون معلقة في الهواء فوق خلفيَّة صفراء فاقعة، تمنّي نفسَكَ بحلوى شهية بطعم الفانيليا تنتظركَ بين الصفحات، وتتمثلها في قصص مهادنة تزيّنها نهايات سعيدة، لكنَّ حجم الألم في هذه القصص التي تحمل بصدق همّ الإنسان الجزائري – العربي، يحيلكَ وقد فرغتَ من قراءة الكتاب إلى مرارة الفانيليا إذا ما أسيءَ استخدامها عبر زيادة الكميَّة أو تناولها منفردة، فالسخرية التي تطبع عدداً غير قليل من القصص هي من النوع الأسود الباعث على البكاء لا الضحك، والذي لا يخلو طعمه من المرارة. ولكن ما يشفع للكاتب الذي لا يتوقَّف عن «ابتكار الألم» ورميه في وجوه قرائه أنَّه «يمارس الفعل الوحيد المتاح عبر هذا القفر الجنائزي: فعل التعرية والمكاشفة، والمسكن الأبدي ضدّ الخيبة والقلق والخوف والعجز واليأس» على حدّ قوله.