تونس | نعت الأوساط الثقافية والأكاديمية في تونس أمس المؤرخ و«أب تاريخ الإسلام المبكر» ــ كما يلقّب ــ هشام جعيط (1935 ــ 2021). رحيل جعيط الذي كان متوقعاً بعد معاناة طويلة مع المرض، يعدّ نهاية زمن التأسيس للدراسات المتعلقة بالإسلام المبكر أو إسلام التأسيس التي بدأها مجموعة من المستشرقين قبل أن يؤسس جعيط مساراً آخر لها. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
جمع جعيط، سليل أرستقراطية حاضرة تونس من عائلة زيتونية (والده من أبرز شيوخ الجامع الأعظم الزيتونة)، بين التعليم التقليدي والتعليم الحديث؛ إذ تخرّج من «جامعة السوربون» بعد دراسة ابتدائية وثانوية في «المعهد الصادقي» الذي تخرج فيه بناة تجربة الاصلاح والتحديث في تونس من بناة دولة الاستقلال وما قبلها. في عام 1962، التحق بالجامعة التونسية كأستاذ للتاريخ العربي الاسلامي الذي يعدّ رائداً له من خلال مقاربة نقدية للتاريخ المقدّس. وقد كانت أطروحته حول نشأة مدينة الكوفة في القرن الهجري الأول تحت إشراف المستشرق الفرنسي كلود كاهن (1911-1990)، مرحلةً فاصلةً في تاريخ الدراسات المتعلقة بإسلام التأسيس.
تعدّدت أعمال هشام جعيط من «الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية»، و«تأسيس الغرب الإسلامي»، وثلاثية «في السيرة النبوية»، و«الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر»، و«أزمة الثقافة الإسلامية» و«أوروبا والإسلام: صدام الثقافة والحداثة»، و«الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي». وكان آخر إصدارته باللغة الفرنسية وترجمته «التفكير في التاريخ، التفكير في الإسلام».
رحيل هشام جعيط خيّم أمس على الشارع التونسي، فقد كان رمزاً من رموز الجامعة التونسية ومؤسساً لمدرسة في التاريخ والحضارة، وجل المشتغلين اليوم في الدراسات الإسلامية والتاريخ الإسلامي المبكر أو إسلام التأسيس من منظور نقدي، هم من تلاميذه. هذا ما منح هشام جعيط الذي كان والده عبد العزيز جعيط مفتي الديار التونسية (أعلى رتبة شرعية) موقعاً رمزياً. يضاف إلى ذلك انخراطه في قضايا الشأن العام، مثل قضايا الحريات السياسية والأكاديمية، وانتصاره للقضايا القومية مثل العراق وقبلها فلسطين. وكان جعيط دائم التعبير والنقد للسياسات الرسمية المتعلقة بالديمقراطية والفساد وسطوة العائلات الحاكمة، ما سبّب له غضب الجنرال بن علي زمن حكمه، فحرم ــ خلافاً لمؤسّسي الجامعة التونسية الأحياء ـــ التمديد له في التدريس عقاباً على مواقفه المناوئة لنظام بن علي.
كان رمزاً من رموز الجامعة التونسية ومؤسّساً لمدرسة في التاريخ والحضارة


يمكن اعتبار رحيل هشام جعيط نهاية زمن كبار المؤرخين العرب لا التونسيين فقط، فما يحسب للدكتور جعيط ليس الرؤية النقدية لإسلام التأسيس ومسلماته فقط، بل تباينه المنهجي مع الدراسات الاستشراقية في تناولها للإسلام المبكر. فقد كانت دراساتهم من خارج المتن الاسلامي، في حين كانت أعمال جعيط من داخل متن إسلام التأسيس الذي شغف به منذ طفولته في بيت العائلة، كما قال ذلك في أكثر من شهادة له.
رحل هشام جعيط في وقت تواجه فيه النخبة التونسية الكثير من الأسئلة حول تاريخها المعاصر. ولعل رحيله الآن إعلان نهاية زمن المؤسسين في تونس. وقد توّج مسيرته الأكاديمية بانتخابه رئيساً لأكاديمية «بيت الحكمة»، وهو أول رئيس منتخب لها في عام 2012 بعد سنوات من التهميش وعدم الاعتبار في عهدي مؤسس الجمهورية الحبيب بورقيبة بسبب انحداره من عائلة زيتونية كانت من أشد خصوم بورقيبة، والجنرال بن علي بسبب مواقفه من الحريات السياسية وتفكيره بصوت عال.
رحل هشام جعيط صاحب الغليون. وبرحيله تفقد تونس شخصية طبعت تاريخها. وقد نعته وزارة الشؤون الثقافية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والعشرات من أبرز أساتذة الجامعة التونسية. لقد رحل المعلم الأكاديمي الكبير بعد معاناة طويلة مع المرض والعزلة. وداعاً بروفيسور هشام جعيط.