بعضُ الروايات لا تنقل القارئ إلى حكايات خيالية يستمتع بها، وإنما تنقله إلى مدينة خيالية يطلّ مِن خلالها على حكايات وأوجاع مُدن حقيقية، كان للإنسان والمجتمع الدور الكبير في حُزنها، فمن خلال المُدن، يمكننا أنْ نقتربَ أكثر من أجواء ساكنيها ونعرف الكثير عنهم، خاصةً إذا كانتِ الرواية تتحدّث عن فترة زمنية محددة، وهذا أعتقد من أعظم الأشياء التي يقدمها الأدب للشعوب، أن نعرف الآخر عربيّاً أو أجنبياً، أن نشعر به ونلامس عن طريق الكتب آلامه، التي نتعلّم منها الصبر. هذا ما أخذتْنا إليه رواية «الغول البهي» (دار ميم ـ الجزائر ـ 2021) آخر إصدارات الروائي العراقي عمار الثويني. هذه الرواية البوليسية، التي تستظل بظلال التاريخ والواقعية لتروي لنا قصّة العراق، عراق الألم والظلم المتعاظمين، إذ يبدأ الثويني روايته بعثور السارد على مخطوط رواية أرسله له مجهول، بهدف قراءته ونشره. بعد ذلك، نذهب معه في تتبع أحداثها، بدءاً بالفصل الذي يفترض أن يأتي في الأخير وهو معرفة القاتل، ليشارك القارئ رحلة البحث، مكتشفاً جرائم سلمان الواحدة تلو الأخرى، إذ يتخلّل ذلك الكثير مِن الأحداث التي أعطتْ للسرد جرعةً من التشويق، على الرغم من معرفتك أنّ القاتل هو سلمان. يعرضُ لنا الكاتب في البداية قصّة أم سلمان وكيف استولت على بيت اليهودي الذي هجِّر قصراً إلى اليونان، يمرّر لنا الكاتب عن طريق الرواية أحداثاً تاريخية مرّت على العراق، كثورة ١٩٦٨ وبعدها الحرب بين العراق وإيران فترة الثمانينات من القرن الماضي، ثم احتلال الكويت وتحريرها عام ١٩٩١ وما تلاها من انتفاضة ضد نظام صدام حسين، والكثير من الأمور التي نقرأها ما بين السطور، والتي تشبه كثيراً ما حدث في الجزائر سنوات التسعينيات «العشرية السوداء».
استخدم الثويني طريقة الاستبطان لنتعرف من خلالها إلى مرض سلمان المُصاب بمتلازمة ريندفيلد، أي عشق الدم والرغبة الشديدة في مشاهدته، والذي حوّله إلى ضحية، إذ أنه قام بجرائم عدّة دون رحمة، بالرغم من أنّ سمَة الإجرام لا تبدو على ملامحه ولا على شكله.
وهذا ربما ما كان وراء تسمية الرواية بـ «الغول البهي»، فلا يمكن أن يكون الغول بهياً، إلاّ إذا كانتْ جرائمه مدفوعة بمحرّكات مرضية، كالحرب والمُجتمع.
يعود سبب إصابة سلمان بهذا المرض، تحديداً، عندما شارك في الحرب ضدّ أميركا مع القوات الخاصة، ونجا منها بعدما أمضى ليالي وأياماً بأسرها في جبهات القتال داخل الكويت إلى الحدود العراقية، إلى مقتل صديقه الذي كان معه في الخندق ذاته، الذي أصابته شظية، أياماً بعد ذلك غادر الحياة، لم تُجدِ محاولات سلمان في إنقاذه سدى.
تغيّرت حياة سلمان بعد هذه الحادثة بالذات، إذْ أصبح منظر الدماء أحبّ المشاهد إلى قلبه، وهو الذي كان لا يستطيع ذبح دجاجة:
«صار الموت بالنسبة له أمراً ليس قبيحاً بالدرجة التي كان يتصورها، وغدتِ الدماء بلونها الأحمر أحلى شيءٍ في حياته، فلم يعشق شيئاً مثله».
يسردُ لنا في الفصل الأخير عودة أخ سلمان الذي كان متّهماً بالتهريب، لكنه يدخل مدينة الكرامة بعد 14 سنة من تطبيق الإعدام على سلمان نقيباً، يلاحظ أنه بالرغم من التوسع العمراني في مدينة الكرامة، إلا أنّ الأوضاع بقيتْ ذاتها، لا شيء تغير: الموت، الجريمة، الظلم نفسه.
المُحزن في الرواية هو إصرار الأمن بالرغم من توضيح الطبيب لطبيعة مرض سلمان، على أنْ يكتبوا في المحضر: أنّه قتلَ ضحاياه عن سبق إصرار وترصد، كي لا يظهروا أنّهم فشلوا في أداء مهامهم، وليبدو أيضاً أن كلّ شيء يسير على نحو عادل في هذه البلاد، ولعلّ هذا ما لمّح إليه الكاتب في إحدى الفقرات التي تلخّص كلّ شيء:
«عرف سلمان بهويتهم، عصابة من أشهَر المهربين الذين يعملون مع إحدى الشخصيات الحكومية النافذة ويتقاسمون الأرباح: الآثار، النفائس، المخطوطات، الحيوانات والطيور النادرة والصقور والغزلان، الزئبق الأحمر والكبريت، وحتى المخدرات».
القارئ للرواية يلحظُ شيئاً مهمّاً: على الرغم من أنّها تتحدث عن العراق، إلاّ أنّ ما تتناوله بالمجمل هو ما حدثَ ويحدث الآن في كلّ مكان، ليس فقط في العراق. مثلاً هناك فقرة يمكن إسقاطها على ما حدث في الجزائر أثناء العشرية السوداء، فعندما أراد أخ «سلمان» تسليم مبلغ مالي لأهل وداد موحان (خليلة سلمان)، التي قُتلت رجماً، يقول: «رجمت بالحجارة بعد التغيير على يد شباب ادعوا التدين وتطبيق الشرع، فأغلقوا صالونات الحلاقة والسينما، وأغلقوا محلات بيع الأشرطة والأغاني». هناك مَن يريد القول بأن التدين عند بعضهم مقرون بكره الحياة وكل ما يدعوا إليها، أي أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تكون متوازنة في التعامل مع كلّ شيء، وهذا ما ينتج للأسف أفراداً مثل سلمان، دفعهم المجتمع دفعاً لكي يكونوا قتلة.
كُتبت الرواية بطريقة بوليسية لكن، ليس كما تعوّدنا! هُنا في «الغول البهي»، نحن نعرف المجرم، لكنّنا لا نعرف دوافع القتل. ومع كلّ ضحيّة، نحاول أن نقترب من الحقيقة، لنكتشف في الأخير أنّنا أمام نوع جديد من الكتابة البوليسية التي لا تسير وفق الطريقة النمَطية في الكتابات، بل تكسرها لتضع القارئ أمام عناصر أخرى تجعله يواصل القراءة حتى آخر صفحة، بحثاً عن نهايةٍ غير تلك التي اعتاد عليها لأن بداية هذه الرواية هي نهايتها.
تتبّع الثويني من خلال «الغول البهي» خلفيات العراق الذي لا نعرف؛ العراق الحزين، فلم تكن مدينة الكرامة لدى الثويني مسرحاً لأحداث روايةٍ فحسب، بل -كذلك- مسرحاً للحياة بكلّ ما تحمله من تداعياتٍ على العراقيين، وما يمكنُ أن يشكّله ذلك التداعي في نفسياتهم.