أنْ تقرأَ لعبد السلام بنعبد العالي هو أنْ تفكّر بشكلٍ مختلف في ما اعتدتَ أن تتناوله بشكلٍ عاديّ جداً. فعلى مفكّر اليوم أن لا يعاودَ استهلاك أفكارٍ سابقة هي لا شكّ صحيحة، لكنّه يجبُ أن يأتيَ بأفكارٍ جديدة تتماشى والزمن الحالي، صحيح أنّ الفكرة لا تموت، لكن طريقة عرضها وتماشيها تختلفُ والراهن. فالمُفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي انطلاقاً من فكرته يوصلُ لنا ما يريد قوله مع استناده إلى وجهات نظر أخرى. والاستناد هُنا يفضي إلى شيءٍ واحدٍ وهو أنّ قراءاته المكثّفة لم تصنعْ منه مفكراً فحسب، بل علّمتْه كيف يفكّر، وكيف يصوغ تلك الأفكار لينتجَ أفكارَه وآراءه الخاصّة حولها، إذ تشعرُ أنّك تقرأ فكرةً جديدة انطلاقاً من رؤية جديدة.
وهذا ما لاحظناه في كتابيه «الكتابة بالقفز والوثب» و «انتعاشة اللغة »الصادرين عن «منشورات المتوسط» (2021/2020)
ففي «الكتابة بالقفز والوثب»، يتعرّض إلى الكتابة في حدّ ذاتها باعتبارها «مختبر الفكر»، في حين يرى أن مهمّة الكاتب كما يراها هايدغر «أنّ المؤلفَ لا ينقلُ معارفاً يمتلكها، فهو ليس حكيماً، وإنما هو، كعرافة معبد دلف، يكتفي بأن يومئ ويشير، أن يدلّ ويُحيل وأقصى ما ينشده، إنْ هو وقعَ على القارئ المناسب، هو أن يكون وراء نمو وزيادة توغل الفكر.»
كما تطرّق في الكتاب ذاته إلى أمرٍ بالغ الأهمية، وهو ما أسماه بمجتمع الفُرجة الذي فقد فيه أفراده «القدرة على إدراك التجربة الواقعية. أفرادٌ لم يعدْ بإمكانهم أنْ يستشعروا حقيقة العالم الواقعي» وأيضاً القدرة على التمييز. وهذا تحديداً ما نراه اليوم، أفراد لا يعرفون شيئاً عمّا يدور حولهم، فبإمكانهم استيعاب أيّ فكرة من دون محاولة حتى التفكير في مدى صحّتها. مجتمعٌ مستهلك لا مفكر. مغلوبٌ على أمره.
يرى عبد السلام بنعبد العالي أنّ المجتمع الآن غلبت عليه ثقافة الصورة التي أصبحتْ تولّد معناها من اللا معنى كما وصفها، من دون جهدٍ لإعمال الفكر والتفاعل مع ما يطرح بشكل جِدّي، إذ أصبح يعيش نوعاً من «الدوخة الأيدولوجية». وفي كتابه الثاني «انتعاشة اللغة» أو ما أسماه «كتابات في الترجمة»، يحكي عن أهمية الترجمة «التي تنفخ الحياة في النصوص، وتنقلها من ثقافة إلى أخرى. والنَّصُّ لا يحيا إلَّا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة، في الوقت ذاته». كما أبرز علاقة الترجمة والفلسفة، وهذا ما أشار إليه المفكّر المغربي عبد الفتاح كيليطو في تقديمه للكتاب؛ إذ وصفه بأنه «أوّل دراسة فلسفية أُنجزت عن الترجمة في الثقافة المغربية». وبالفعل المطّلع عليه يدرك تماماً أن عبد السلام بنعبد العالي تطرّق إلى أهمية الترجمة من ناحية فلسفية، استطاع من خلالها أن يقول إنّ الترجمة تتجاوز كونها تنقل لنا معارف وثقافة الآخر، بل تعيد صياغة مفاهيم فلسفية مهمّة في ما يتعلّق بالهوية والوحدة والتعدّد. كما أنّ الترجمة _برأيه_ هي التي تنهض بوعي الشعوب، وإلّا ستظل قاصرة لا دور لها، إذ يلمّح إلى كون الشعوب المتحضّرة هي الشعوب التي تعنى بالترجمة كضرورة حياتية مُلحة.
إلى هنا أعتقد أنّه طرح سؤالاً خطيراً: هل الشعوب العربية نجحتْ في الارتقاء بالترجمة، التي دائماً ما يقترن إزدهارها بتطور الشعوب المتحضرة؟
كنتُ سأطلق على عبد السلام بنعبد العالي «امبرتو إيكو العرب»، لكنني تراجعت، قلت لِمَ كلّ شيء جيد ننسبه إلى الغرب؟
أليس من الصحي أن نسمّي الأسماء بمسمياتها ونعطي لكل ذي حق حقه، ففي هذين الكتابين تحديداَ، نرى أنّ عبد السلام يصوغ مفاهيمه هو في شتى المواضيع من زاوية نظره ورؤيته لها، خاصة في ما يتعلّق بالترجمة، الفلسفة وعلاقاتها بالمجتمع والفرد، كما تطرّق إلى الإنسان الآن؛ الذي يراه: «لم يعد يقوى على تحدّي الافتراضي واستعادة الواقع» وفقد أيضاً «القدرة على الخلود إلى الوحدة»، أي أنّ الإنسان هذه الأيام فقدَ الكثير من الأشياء التي يجبُ عليه تداركها ليستعيد إنسانيته، في هذا العالم الذي تطور فيه العلم بشكل كبير، عالم توحش الذكاء الاصطناعي واكتساح التكنولوجيا لحياة البشر بشكل يدعو إلى الخوف والحذر في الوقت ذاته من المستقبل.
بين انتعاشة اللغة والكتابة بالقفز والوثب، نحن أمام مفكر، ومنظّر من طراز خاص اسمه عبد السلام بنعبد العالي استطاع أن يزاوج بين الترجمة والفلسفة بطريقة تجعل القارئ لا يستفيد فقط، بل يستمتع أيضاً، كون الطريقة التي يشرح بها أفكاره قريبة جداً من المتلقي، وهنا برأيي تبرز قوته في صناعة الفكرة، وفي صياغتها، وطرحها على نحو بسيط للباحث وللقارئ العادي، وقطعاً أن تكون قريباً بكتاباتك من الجميع، أمراً ليس بالسهل ولا بالمتاح.
كما أن القارئ لكتابيه («انتعاشة اللغة»، «الكتابة بالقفز والوثب»)، يدرك أنه أمام قارئ موسوعي، أفاد مما قرأه من دون أن يعيد اجترار تلك القراءات، وهذا ما يميز كتاباته عن الباقي من وجهة نظري.
أعتبرُ عبد السلام بنعبد العالي من أفضل مَن قرأتُ لهم في هذا الزمن الافتراضي الذي تشابَه فيه كل شيء حتى ما عادت اللغة تبهر ولا الأفكار تقول شيئاً، فهو علامة مضيئة في الفكر العربي والإسلامي الجديد، مفكر وفيلسوف من العيار الثقيل. لا يطرح الأفكار لمجرد الترف الفكري وإنما من أجلِ حلّ أو وضع أجندة جديدة في العالم الذي نعيشه.