في قرية صغيرة في صحراء السماوة جئت إلى هذا العالم، وفي الستينات كنتُ أرعى الأغنام، قرب الطريق الترابي الواصل بين مدينة السماوة التي كانت آنذاك بعيدة عن قريتنا ويفصل بيننا وبينها السراب والكلاب الضالة، وبين سجن نقرة السلمان القريب من الحدود السعودية، وكنت ألوّح دائماً لسيارات خضراء مغلقة ذات شبابيك صغيرة تحمل بداخلها سجناء يُدفع بهم بشكل دائم إلى ذلك السجن. ودائماً يلوّح لي بعضهم، فتكون فرحتي كبيرة، وأبقى أركض ككلب وراء تلك السيارة الخضراء، وربما ابتسم بعضهم، حينما يراني عارياً، ذلك أن ثوبي الوحيد تم غسله في ذلك اليوم فأبقى عارياً حتى يجف.في عام 1963، كان سعدي يوسف واحداً من هؤلاء السجناء، ربما شاهد ذلك الصبي العاري، وربما ولوّح لي من وراء شبابيك تلك السيارة الخضراء، دون أن أعرف أو يعرف هو، فقد قادوه إلى ذلك السجن في الصحراء، الذي لو حاول ساكنه الهروب منه فإن وصل فستكون قريتنا هي أول إشارة بالحياة، لكن في ذلك الوقت إن لم يقتله العطش فسوق تفترسه الذئاب. لهذا لم يوفّق تقريباً أي سجين بالهرب منه والوصول حيّاً إلينا... كانت الذئاب تصل في الفجر إلينا وتنجح دائماً في افتراس أغنامنا.
بعد أعوام من الفاقة والتيه، وبعدما أصابتني لوثة الشعر نتيجة الوحدة مع الأغنام والعزلة في المدرسة، العزلة التي يواجهها تلميذ قروي، القمل يهمي من ملابسه والفقر يشع من ملامحه، وصلت إلى المكتبات المحلية، وفيها اكتشفت ديوان سعدي يوسف: «الأخضر بن يوسف ومشاغله»، الذي صدرت طبعته بعد عودته من المنفى في بغداد، وكتابه الشعري: «نهايات الشمال الأفريقي» الذي نشرته آنذاك «دار العودة» في بيروت... شخص ما، من أقربائي رآني تائهاً في المكتبة وأنا أقلب كتاباً ترجمه شخص اسمه عبد الله القصري، اسمه: بودلير، الشاعر الرجيم، فتنتني فكرة الشاعر الرجيم، هذا الشخص أرشدني إلى دواوين سعدي يوسف. اقتنيت الكتابين وعدت إلى القرية وعلى ضوء الفانوس قرأت:
«توهمت انك زاويتي، والمدارَ الذي يقفُ النجمُ فيه
توهمت نخلَ السماوة، نخل السماواتِ
حتى حسبتكِ عاشقةً،
فانتظرتُ النهارَ الذي يطلعُ النجمُ فيه..»
لم أمسك كثيراً من هذا الشعر آنذاك، لكن ذلك الشعور الغريب الذي تملكني جعلني أتواصل مع قراءة وإعادة قراءة، فقد كنت أريد أن أفهم علاقة هذا الشاعر بمدينتي ونخلها... ثم سيدة النهر، عنوان القصيدة، لماذا؟ هذا الشعور الغريب هو المفتاح الذي كان بين يدي والذي لم أجد قفلاً لكي أفتحه، لكني بقيت أسير أوهام أو رغبات أو تفاصيل تمنحها قصائد سعدي يوسف لقارئ مثلي، تفاصيل تُمنحُ بالتقصيد، أو تحلّ فيّ، ليس العالم الذي قدم منه، ليس قرْب قريته من قرية بدر شاكر السيّاب، لكن أيضاً وبشكل خاص تلك البساطة التي تبدو كأنها في متناول اليد لمن شاء، تفاصيل الحياة اليومية، جزئيات التاريخ والأحداث المخبوءة وهي تنزّ في القصيدة قطرة قطرة لكي تشكل لنا تاريخاً مكثفاً في عدة أسطر. هذه هي قصيدة سعدي يوسف.
معه اتخذ الشعر العربي الثوب المحلي، الثوب الشفيف للواقع بتفاصيله كلها


لهذا فما أن أصدرت محاولتي الشعرية الأولى حتى أهديتها إلى الأخضر بن يوسف، وما أن شربت قنينة البيرة الأولى، حتى تشجعت واتصلت به تلفونياً في بغداد لكي أعرف إن كانت مجموعتي قد وصلته... ومذ ذاك ونحن نتنقل من مكان إلى مكان، ونلتقي هنا وهناك، وقصيدة سعدي يوسف كانت محطّ اهتمامي بشكل دائم، أقرأها حينما تكون طازجة، وحينما أستعيد محطات حياتي... ففي أول عودة لي إلى العراق عام 2003 بعد 25 عاماً من الفراق، كان اللقاء في السماوة مع أصدقاء تلك الفترة عبارةً عن استعادة قصائد سعدي يوسف عن ظهر قلب... فقصائده كانت بالنسبة إلى أفراد جيلي نوعاً من كلمة السر التي تؤكد لنا ما هو ثقافي وسياسي واجتماعي. فقصائده بقيت متوهجة في ذاكرة المهاجر والمقيم.
ولكن قبل هذا، أنجزت (بمشاركة صديق ألماني) ترجمة مختارات من شعره بعنوان: «بعيداً عن السماء الأولى» إلى الألمانية، وهذا بالطبع عنوان إحدى مجاميعه الشعرية.
مع سعدي يوسف، اتّخذ الشعر العربي الثوب المحلي، الثوب الشفيف للواقع بتفاصيله كلها... حيث تبيّن فيه الأشكال الصغيرة وتُسمع الأصوات الخفيضة. كما تلاشت تلك البلاغة الثقيلة التي كانت لأعوام طويلة، وربما ما زالت، تمنع الشعر العربي من التماس مع الواقع. سعدي يوسف شاعر التفاصيل الصغيرة بامتياز.
بهذا المعنى فهو شاعر بنّاء، كلُّ ما في قصيدته رأته عيناه وتحسستهُ يداهُ. وقد قُدّر له أن يسيرَ من تلك القرية «حمدان»، منذ أعوام طويلة، تجاوزت الستين عاماً ربما، إلى مدن كثيرة وأن يُمسك الحصاة في قاع النهر، وأن يشمّ الزهرة الصفراء في «تيبازا»، وأن يرقب «القنفذ في حبوته».
اليوم وأنا أستعيد أعماله الشعرية في طبعتها الجديدة، والتي ربما كنت طالعتُ بعضها قصيدة في السبعينات وفي ما بعد بأشكال مختلفة ومتفرقة، كأنها وطن بديل، خريطة لعالم وهمي استطعت مواصلة العيش بفضله. آنذاك لم أتمالك نفسي حينما كنت مع عبد اللطيف اللعبي في برلين قبل أعوام خلت، حتى قرأت له عن ظهر قلب قصيدة «عن الأخضر أيضاً» أمام دهشة الزميل الألماني... وأن أسير بعد أعوام في طرق المغرب وأنا أقرأ يافطات الطريق وأسماء المدن التي أعرفها من قصائد سعدي يوسف، أو في الجزائر العاصمة كأني كنتُ فيها والأبيات ترد على لساني: «تيبازا، آه تيبازا!».
كم يحتاج المرء من الشعر حتى تكون حياته وكأنها بُنيت عليه أو من أدواته؟ لكل شاعر دليلٌ في خيالي، دليلُ حياة ودليلُ أوهام مُنجية من المضائق والمطبات. ليست بمعنى الطلاسم - وإن كانت هنا وكأنها كذلك من بعيد- فالقصيدة ليست عكازاً، بل هي جناح، ينمو في اللحظة المناسبة، ويرتفع بنا، كأننا في الأحلام نطير. القصيدة كأنها سيرة، أو جزء يسير من سيرة، وعند سعدي يوسف هي المشهد الحاضر، حسبما يراه مع مشهد مُستعاد، لا توهّم هنا أبداً، إلا توهم الحياة، الحياة التي تضج أو تبدو طبيعة صامتة ولكنها ملأى كأي طبيعة حية، حيث ينبض الصخرُ والحجرُ بالحياة وترنّ الأصداء مالئة سمعنا...
في مقدمته للجزء الأول من أعماله الشعرية، يتذكر الشاعر القبض عليه: «أُخذت من المنزل، إلى مركز الشرطة، وبعد ليالٍ هناك، ذهب بي شرطي، وأنا مغلول، إلى محطة القطار، القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد حيث سأحاكم. كنا راجليْن، أنا والشرطي، والطريقُ بين مركز الشرطة ومحطة القطار يمرّ بكل الأماكن التي أعرفها، ويعرفني الناسُ فيها: السوق، المقاهي، المكتبة، كان الناس يضطربون مضطربهم اليومي... وأنا أسيرُ بينهم مغلولاً. لم يقل لي أحد: سلاماً، لم تطرف لمرآي عينان، كان الناس مشغولين بشؤونهم، وما أنا من هذه الشؤون، يا لوحشة المسعى!». هنا يتبين مصير الشاعر ووحدته، فهو على طريق قلّ سالكوه، إنه الطريق الموحش.
شاء قدري أن أكون من قرية ناشئة، وآخر قرية عند تخوم الصحراء، كما ذكرتُ في هذا التقديم، والطريقُ من المدينة إلى السجن الصحراوي «نقرة السلمان» يمرّ بها، كنتُ أرقب في الصغر سيارات السجن الخضراء وهي تروح غادية من المدينة إلى السجن وبالعكس، حيث هناك أمضى الشاعر أيامه سجيناً... وفيما بعد منذ عام 2009 وأنا ألتزم زيارة خرابة السجن... أجلس متأملاً ردهات السجن المتهاوية... فيما ابني الشاب يلهو بخراطيش الطلقات الصدئة وبقايا حديد المدافع...

* شاعر عراقي وصاحب «منشورات الجمل»




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا