من بداية نضجه في الكتابة لغاية وفاته، كان سعدي يوسف، واحداً من ثلاثة أو أربعة أبرز مشاريع في الموجة الثانية للحداثة الشعرية العربية، إذا اعتبرنا أن الموجة الأولى تحلقت حول السياب وجماعة «شعر».تكمن قوة وتفرّد مشروع سعدي يوسف الجمالي في تخليصه القصيدة من التكلف البلاغي ونبالة الموضوعة، رافداً النفس الشعري العربي بِلغة ردمت الهوة بين الشعر والنثر، من دون التخلي عن النظم التفعيليّ، ولكن أيضاً من دون التمترس المحافِظ خلف الوزن، وربما كانت فاتحة هذا النزوع الجمالي الجديد نابعة من ترجمته لريتسوس، التي صارت مدخلاً ومرجعاً جعل من شاعرنا الإغريقي شاعراً عربياً كامل الصفة، من خلال بروز ما صار يسمّى تيار قصيدة التفاصيل وشعرية اليومي.
كان سعدي يوسف واعياً، نفسياً وجمالياً، بتلازم الزمان والمكان في تأثيرهما على دَفَق الكتابة، على صيرورة إنتاج النص، لذلك — سيراً على نهج ريتسوس ربما — كان يُذَيِّلُ قصائده بزمان ومكان إنتاجها، ما يتيح لنا، من نظرة أولى، اكتشاف أنه جال كل العالم تقريباً: مشرَّداً، طريداً، لاجئاً، أمام جبروت أكثر من سلطة، شرقية وغربية (شهادته حول محاولة ابتزاز المخابرات الفرنسية له بتشغيله مُخبِراً لها إن أراد البقاء فوق التراب الفرنسي معروفة في هذا الشأن). كان سعدي يوسف متورطاً في السياسة من قمة رأسه حتى أخمص القدمين، حتى حَقَّ اعتباره شاعر اليسار العربي الأبرز؛ وكانت له في ذلكَ محاسن ومزالق: الاشتغال في الإعلام الحربي خلال حصار بيروت 1982، مناهضة حصار العراق والحرب عليه، ضداً على «انتمائه» لحزب شيوعي عراقي صارت قيادته فاقدة لبوصلة العداء للإمبريالية وتجويع الشعوب، مناهضته للسلطة «العراقية» القائمة تحت الاحتلال الأميركي. وفي هذا كان سعدي يوسف رائياً، بتقديره المتشائم أنّ العراق سيبقى تحت الاحتلال والفوضى لمئة عام وأكثر؛ لم يكن لهذه المواقف الناصعة أن تمرّ من دون شوائب: خطاب عنصري ضد عجم العراق، مديح مَجَّاني لمحمد بن سلمان، فقط نكاية في «الصفويين».
ولكن، يبقى من سعدي يوسف الزبَد: مشروعه الشعري المتنوع والمتفرد، الذي حاولنا تتبّعه كرونولوجياً بانتخاب قصيدة من كل ديوان بارز له، مركّزين على الأبرز لضيق المساحة، فدواوينه تتجاوز المئة، وهو بهذا من أغزر الشعراء العرب الحديثين.

1. كيْف تأْتي الْقصيدة
الْكلمات الثّلاث الّتي تشكّل السّؤال، تعْتبر أصولاً بحدّ ذاتها: الْكيْفيّة، السّيْرورة، طبيعة النّصّ [الْقصيدة معرّفة].
أنت في حالة من الاستغراق بشؤون أخرى، غير متّصلة بالشعر، ربما كنت معْنيّاً بمتابعة خبر، أو عنكبوت منهمك بنسج شبكته على طرف سياج… ربما كنت ضجراً، أو تتهيّأ لوجبة طعام. وفجأة يتبدل كل شيء؛ حالة الاستغراق في شؤون اليوم تختفي، وتنقطع متابعتك هذا الأمر أو ذاك.
طرف خيط يصل إلى أناملك، حريراً لامعاً ذا ألوان بهيّة.
كلمة واحدة، عادة، أو كلمتان، ثلاث كحدّ أقصى.
أهي البداية؟ أعني بداية النصّ؟
طرف الخيط، سوف يعود بك إلى المنبع الأول، إلى لحظة الارتطام البعيدة، الغائرة في الزمن وفي اللاوعي اللحظة التي تكاد لا تبين، لفرط خفائها.
هذه اللحظة التي نبتتْ فجأة، مع ما حملته من قيم قابلة للتفاعل، ستكون الأساس لما سيتلو..
لندن، 25/09/2004

2.رباعيّة
أعيش على مقْلتيْك، كأنيّ بعيْنيّ لا أبْصر
وليْل شفاهي ارْتجاف، ودرْبي هوى أخْضر
أقول إذا الريّح مرّتْ: لمنْ دونها تعْبر
لمنْ يزْهر الْجلّنار، وينْدفع الْمرْمر؟
الْبصْرةْ، 10/04/1961

3. الشّعْر
منْ هشّم هذي المرآة
ونثّرها
كسراً
كسراً
بين الأغصان؟
والْآن...
أندعو الأخضر أنْ ينظر؟
تضطرب الألوان
وتختلط الصوّرة بالشّيء
وتحترق العينان
لكنّ على الأخضر أن يجمع تلك المرآة
على راحته
ويلائم بيْن الأجزاء
كما شاء
ويحفظ ذاكرة الأغصان.
باتنة، 26/03/1980
كان متورّطاً في السياسة، حتى حَقَّ اعتباره شاعر اليسار العربي الأبرز


4. نصيحة أوجينْ كلُّڤِيكْ
«إنْ لمْ تجد البحر/ فانظرْ في باطن كفّك» [أوجينْ كلُّڤِيكْ]
■ ■ ■
كيف يكون البحر
وأنا لم أعرف، بعد، البرّ؟
■ ■ ■
أنظر في باطن كفيّ
فأرى ظاهر كفيّ...
■ ■ ■
كيف يكون البحر؟
16/02/1981

5. الجوهر
بينما كانت الريّح تدخل في دوحة الجوز
قلْت لها: هلْ تبيتين فيها؟
قالت الريّح: منْ كان مثْلي نبيها
بات يسري..
ولكنّني، لحظة، أستريح.
قلْت همساً: ومنْ كان مثلي، يا ريح؟
ردّتْ: عدمْت الشّبيها
08/01/1989
[محاولات، 1990]

6. تفصيل
ألغريفة، ملأى مسامير
غادرها الساكنون
وما خلّفوا لي إلا المسامير
دقوا مساميرهم في الخشب
أولجوها بقلب الحديد
وشقوا السّمنت بها حائطاً من حطب...
ثمّ لم يتركوا أثراً غيْر هذي المسامير
منْ أين جاؤوا بها؟
ما الّذي فعلوه بها؟
عند رأسي مسامير
ملء فراشي مسامير
في الحوض، حيث أمرّغ بالماء وجهي، مسامير
حتىّ الهواء مسامير...
لا تعجبوا إذ أقول لكم إنّني قد مددت يدي في جيوبي
أبحث عن درهم
فوجدت المسامير
أمشط شعري فتسقط عنه المسامير
حتىّ الفتاة الّتي كنْت أحببْتها أبعدتها المسامير..
■ ■ ■
إنيّ امرؤ مثلكم:
أستريح إلى غرفة
وفتاة
وأغنية
فلماذا تكون المسامير لي؟
باريس، 22/11/1990

7. التحيّة
الشّمس
وهي تقول صباح الخيْر
للسّرْوة في منعطف الشارع
تنشر قبلتها
توسع سروتها قبلاً
هابطة
منْ خصلات السّروة
حتى السّرّة
حيث الخصر..
عمان، 19/06/1993

8. امرأة صامتة
في فراش البارحة
حيث كان الشّرْشف الكتّان مكوياً
وكان اللّيل مطوياً على خضرته في الرّكن
أو حمْرته في ما تبقىّ منْ نبيد الريّف...
كان الصّمت يعلو
وتموج الأرض مستنجدة بالشّرشف الكتان:
احمل جسدين
اتّسع، اللّيلة، شيئاً...
لا تضق بالموج
بالموجة في الذّروة،
ولتندعك الأزهار في أطرافك...
اللّيلة، يعلو الصمت
والماء يرى منبعه-السّرّ، مصبّاً..
■ ■ ■
أنت في الموجة تمضين
تئنيّن عميقا، داخل الجلد، وتمضين
وتعطين زهور الشّرشف الكتان
ما تعطين:
قطرات الحرير..
12/07/1994
[إيروتيكا، 1994]

9. رؤْيا
سوف يذهب هذا العراق إلى آخر المقبرة
سوف يدفن أبناءه في البطائح، جيلاً فجيلاً
ويمنح جلّاده المغفرة..
لنْ يعود العراق
ولنْ تصدح القبّرة
فامشِ — إنْ شئت — دهراً طويلاً
وادع — إنْ شئت — كلّ ملائكة الكون
كلّ شياطينه،
ادع ثيران آشور
عنقاء مغربة..
ادعها
وانتظرْفي دخان التّهاويل
معجزة المبخرة.
عمان، 08/03/1997




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا