شهدت المهرجانات السياحية الصيفية، كمفهوم لتنظيم الأمسيات الفنية، الموسيقية بشكل أساسي، وغيرها من عروض راقصة أو مسرح (غنائي عموماً)، أربع مراحل في تاريخ لبنان: أولاً، انطلاق الحالة في منتصف الخمسينيات. ثانياً، تعليق الأنشطة خلال الحرب. ثالثاً، إعادة الإحياء بُعَيد الحرب، ورابعاً ازدهار الحالة (في الانتشار الجغرافي) بشكل تصاعدي مَطلع الألفية، وصولاً إلى تسارع هذا الازدهار في السنوات العشر الأخيرة. اليوم، انتقلت هذه الظاهرة إلى المرحلة الخامسة، وهي موضوع هذه المقالة.هذه المرحلة بدأت إرهاصاتها الواضحة في صيف 2019، عندما بدأ يتعثّر بعض الجهات المنظّمة للمهرجانات (مهرجانات زوق مكايل الدولية). في الخريف، تكون المهرجانات قد أسدلت الستارة عن دوراتها وبدأت تخطط للدورة التالية. لكن خريف 2019 حمل معه رياح غضبٍ شعبي، أزال القناع الباسم الذي كانت تتنكّر خلفه الحالة الاقتصادية، وبانت تكشيرة الواقع التي بدت أشدّ أسًى ممّا تخيّلناها. بدأ الانهيار العظيم بالتزامن تماماً مع خبرية صينية كانت لا تزال «سريّة» في حينها، بأنّ الكوكب سيتعرّض لاجتياح من جيش منظّم، فتّاك، غير مرئي، وليس له أصدقاء بين البشر سوى الأطفال: كورونا ينتشر، يسافر ويصل إلى لبنان. فوق الأزمة السياسية/ الاقتصادية الخاصة بنا، أتتنا أزمة صحية مشتركة مع زملائنا البشر. العِلْم وَضَعَ عيناً على المجهر كمدخلٍ وحيدٍ للحلّ، أمّا نحن فصعدنا إلى طوافة عسكرية لنجْهِز على الفيروسات المحتالة المحتلَّة بغارات من المياه «المصلاّية» في طقوس وثنية لا يرضاها على نفْسِه المسيح نفْسُه… وقال الكريم: خذوا! أدركت اللجان المنظّمة أن المهرجانات غير واردة: هذا الصيف (2020) غير محسوب، نراكم في الصيف المقبل، أي صيف 2021، الذي ندخله اليوم. كورونا إلى التراجع، لكنه كان لا يزال داخلاً بقوة في الحسابات قبل أشهر، أي في الفترة التي تُعدّ فيها الأنشطة الصيفية السياحية… أزمة المهرجانات بدت عويصة، والأسوأ أنه لو اختفى كورونا، تبقى عويصة بفعل تكاليفها الباهظة التي لن تجد اليوم أي مصدر لتغطيتها. الرعاة؟ لا دولارات لديها. البطاقات؟ الخبز أبدى منها. الأموال الخاصة؟ في «السجن المركزي» أو أوكِلَت إلى «مَلهَب» (المهرّب في مسرحية «يعيش يعيش» للأخوين رحباني) مهمة تهريبها خارج الحدود. وهنا يأتي السؤال الصعب الذين طرحناه على منظّمي المهرجانات الأساسية: ما العمل؟
رئيسة «مهرجانات بعلبك الدولية» نايلة دو فريج أكّدت أنّه ــــ مهما تحسّن الوضع في الجانب المتعلق بالجائحةـــ سيفرض الواقع الاقتصادي قيوداً على المهرجان العريق، لكن التفكير في حلول لتأمين الاستمرارية لا يتوقّف من خلال اجتماعات دورية. ومن بين المقترحات مشروعٌ يتمحور حول الفن اللبناني غير التقليدي والمواهب الجديدة على الساحة المحلية. تتكتّم دو فريج على أي تفاصيل بخصوص الحدث الذي سيعلَن عنه رسمياً نهاية هذا الشهر، لكنه في المبدأ لن يحصل في القلعة الأثرية، بل سيكون موزّعاً على مناطق وأمكنة عديدة (في البقاع)، ولن يكون متاحاً للجمهور (لأن التحضيرات بدأت في فترة كان لا يزال فيها الوضع ضبابياً في ما خصّ كورونا). وتضيف أن الهدف من هذا الحدث هو إبقاء لبنان حيّاً ثقافياً وتشجيع المهرجانات الأخرى على الاستمرارية من خلال حلول بديلة، ريثما تنجلي الصورة، علماً بأن هذه الخطوة أتت بعد تفكير جدّي في إيقاف المهرجان للضغط على الدولة التي أوقفت دعمها للمهرجانات وزادت عليها الضرائب، لكن سرعان ما اتضّح أن الدولة باتت معدومة الإمكانات وأن الضغط عليها لن يؤدّي إلى نتيجة. المسألة الأهم التي طرحتها رئيسة «بعلبك» وأكدها الآخرون، أن ثمة لقاءات مشتركة بين القيّمين على المهرجانات لإنشاء «جمعية مهرجانات لبنان» لتوحيد الجهود، والعمل على حدث مشترك بين الجميع (لا تاريخ ولا مكان محدداً بعد) لدعوة فنانين أجانب مستعدّين لتقديم مساهمة في هذا الإطار. هلا شاهين، من «مهرجانات بيت الدين الدولية»، أكّدت أن لا شيء على جدول أعمال المهرجان الشوفي لهذا الصيف. بين الواقع الصحّي والأزمة الاقتصادية، لا مجال لتنظيم أي نشاط فنّي، مهما كان شكله، ولو اتّكل على الفنانين المحليين فقط، إذ إن البنية التحتية لتجهيز المكان من مسرح ومدرّجات وتوابعها مكلفة فوق طاقة المهرجان في الأيام العادية، فكيف اليوم؟ أما بخصوص صيف 2022، أو مستقبل المهرجان عموماً، فالصورة غير واضحة على الإطلاق، والأمور متروكة لما قد تحمله الأشهر المقبلة من تطوّرات.
لقاءات مشتركة بين القيّمين على المهرجانات لإنشاء جمعية لتوحيد الجهود، والعمل على حدث مشترك بين الجميع


التجهيزات التي تتطلّبها إقامة هذه الأنشطة الفنية يلفت إليها ناجي باز، دينامو «مهرجانات بيبلوس الدولية» الذي يؤكّد أن بناء مدرّجات فوق البحر (فريدة من نوعها في العالم) والتجهيزات الأخرى من إضاءة وصوتيات ولوجستيات متفرّقة تكلّف بحدود الـ700 إلى 800 ألف دولار. رقمٌ يوضح أنّ المهرجان الجبيلي في أزمة حادّة، عدا عن أن باز يرفض المساومة على المستوى الفنّي، أقلّه في ما يتعلّق به شخصياً، إذ يؤكّد أن المهرجان أكبر منه، والقرار لا يعود إليه بالنتيجة. لكنه، من منطلق شخصي أيضاً، لا باسم المهرجان، يقول إنه، أولاً، ضدّ إقامة نشاط شكلي لتأمين استمرارية مزيّفة واستدرار الحنين والعطف، ثانياً، ضدّ إقامة حفلات ترفيهية في وقت يموت فيه الناس من الجوع ويذلّون. في النتيجة، طابع المهرجانات الصيفية هو ترفيهي واحتفالي، ولو كان بمستوى فنيّ عالٍ، وفي ذلك استخفاف بآلام الناس، وهذه مسألة أخلاقية بحت، يتابع ناجي باز. إذاً، هذا الصيف لا شيء، والصيف المقبل مجهول المصير. ويشير ناجي أخيراً إلى أن تجربة «البث الحي» على الإنترنت سقطت، والحفلات إمّا أن تكون تفاعلاً مباشراً بين الفنان والجمهور وبين الحاضرين في ما بينهم، أو لا تكون.
زلفا بويز، سيدة «مهرجانات زوق مكايل الدولية» الأولى، انسحبت من المهرجان كرئيسة له. لكنها لا تزال معنيّة بالحدث العزيز على قلبها، والذي غاب عن صيف 2019، موحياً بأن في الأفق أزمةً تلوح، تلك التي نشهدها اليوم. بويز التي ما زالت تلملم آثار دمار بيتها في انفجار المرفأ، تقول إن الوضع صعب جداً، والأفق مسدود، لكن الأمل موجود ولا شفاء منه. وقالت إن المهرجان لا يزال قائماً كجمعية، لكنه غير فاعل حالياً، ولو قُدِّر لها أن تنظّم حفلة واحدة على مدرجات زوق مكايل فلن تحار من تختار: زياد الرحباني.
هذه الجولة ختمناها بـ«إهدنيات» الذي أكّد مديره بيار زيادة أن هذا الصيف المهرجان في عطلة قسرية. أما الحلول البديلة والمستقبل، فتناقَش بشكل دائم داخل اللجنة، مع الأخذ في الاعتبار الإجراءات الصحية والوضع الاقتصادي. فواضحٌ أنه في المدى المنظور لا مجال للتفكير بالفنانين الأجانب الذين يتقاضون أتعاباً ليس بالمقدور تأمينها، وبالتالي المهرجان مجبر على تغيير هويّته لتصبح محلية، علماً بأن الحفلات ما زالت غير ممكنة للاعتبارات الصحية المعروفة. لكن الحلول قد تنقل اهتمام المهرجان إلى أنشطة من نوع آخر، كعرض أفلام طلابية أو وثائقيات تتناول وجوهاً فنية محلية في الباحة المخصصة للمهرجان، والناس يشاهدون العروض من داخل سيّاراتهم تفادياً للاختلاط. كذلك يجري التفكير في تنظيم بطولة شطرنج (!) على مستوى لبنان، يستضيفها المهرجان في إهدن وتكون مفتوحة للجمهور ضمن تدابير خاصة.
بين التفاؤل الصعب والتشاؤم الواقعي، المهرجانات اللبنانية الصيفية ما زالت على قيد الحياة، لكن في حالة غيبوبة، ونهوضها يحتاج إلى أعجوبة… هاتوا الهاتف لنتصل بالـ«أبونا» وجهّزوا الطوافة!