في ذكرى مرور 44 عاماً على رحيله؛ و 88 عاماً على ولادته، أصدرت «دار الأمير» خمسة كتب للمفكر علي شريعتي في طبعة جديدةمن منّا لا يعرف علي شريعتي، المفكر الواعي المسؤول والعالم العامل بعلمه حتى دخول السجن لأكثر من ثلاث مرات في إيران الشاهنشاهية، وهو المسلم الشيعي «الوهابي»، «الماركسي» «المُتغرّب» «الرجعي» كما نعته الكثير من مناوئيه، والثائر والمتنوّر و معلّم الثورة الإسلامية كما قال عنه أحمد الخميني (نجل آية الله الخميني)، وكما يراه طلابه ومريدوه.
ولد علي شريعتي في قرية كاهاك من قرى مزينان/ خراسان الإيرانية في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1933م. لأسرة متديّنة ناشطة في الشأن العام، فكان أبوه محمد تقي شريعتي أحد رجال الدين المجدّدين والمفسِّرين للقرآن. انضم إلى الجبهة الوطنية وهو ما زال فتى، وبعد سقوط حكومة مصدّق انضم إلى حركة المقاومة للشاه فاعتقل لمدة ستة أشهر.
بعد تخرجه، حصل على منحة دراسية في جامعة السوربون. وبدأت إحدى أخصب مراحل حياته، فقد احتك مباشرة بالحِراك المضاد للاستعمار الذي شهدته باريس حينها، فتعاون مع الجبهة الوطنية الجزائرية، وترجم فرانز فانون إلى الفارسية في «معذبو الأرض»، ثم أسّس مع آخرين حركة «حريّة إيران» في الخارج، وتعرّف على جان بول سارتر الذي قال في إحدى رسائله: «أنا لا أتّبع ديناً، ولكن لو اتبعت؛ لاتبعت دين علي شريعتي».. أيضاً تعرّف إلى مفكري ومستشرقي تلك الفترة، وقد أدّت مشاركته في إحدى المظاهرات للتضامن مع الرئيس لومومبا إلى اعتقاله لأيام، واعتقل ثانية أثناء مشاركته في مظاهرة دعم للجزائر، وهذا ما أخبرني به أستاذي الدكتور حسن حنفي وزميل شريعتي في الدراسة، حيث قال: «نحن كنّا نقرأ التاريخ، بينما شريعتي كان يصنع التاريخ الحقيقي في المظاهرات».
بعد حصوله على الدكتوراه، عاد إلى إيران وتمّ اعتقاله على الحدود وأُودع السجن. وبعدها عُيّن مدرساً في جامعة مشهد.
لم يكتفِ شريعتي بدوره التعليمي في مشهد، فاتجه إلى طهران، ومثّل مع مرتضى مطهري جذوة حسينية الإرشاد التي كانت الخزّان الفكري للثورة.. فألقى فيها محاضرات مثّلت خلاصة فكره في القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة، وجذبت إليها عشرات الآلاف من جيل الشباب، وتمّ طباعتها بأكثر من عشرين مليون نسخة.
السلطات الإيرانية تضيق ذرعاً بشريعتي، فيدخل السجن عدّة مرات كان آخرها لمدة عام ونصف، ثم أفرجت عنه بعد تدخّل وزير خارجية الجزائر يومها عبد العزيز بوتفليقة، وغادر البلاد، لكن لقي حتفه بعد ثلاثة أسابيع في لندن بتاريخ 19 حزيران (يونيو) 1977. وقالت السلطات البريطانية إنّه توفي إثر نوبة قلبية، ولكن الرأي السائد أنّ جهاز السافاك قام باغتياله.
وبسرعة ملفتة، بادر الإمام موسى الصدر بالتنسيق مع المعارضة الإيرانية بإرسال حسن حبيبي وكمال خرّازي وآخرين إلى لندن، ويُحضروا جثمان شريعتي إلى سوريا لدفنه في جوار السيدة زينب كي لا يستغل شاه إيران مراسم جنازته إذا ما دفن في إيران.
وهكذا انطفأت حياة علي شريعتي، لكن أفكاره وكتبه كانت هيأت لقيام ثورة أطاحت بنظام رضا بهلوي بعد عامين.
ورغم مرور 44 عاماً على رحيله، و 88 عاماً على ولادته، إلّا أنّ أفكاره عن المثقف والدين والمجتمع والاستعمار وغيرها لا زالت حاجة لمجتمعاتنا المنكوبة. وفيما يلي استعراض سريع لخمسة من كتبه تعيد دار الأمير إصدارها بحلّة جديدة احتفاءً بذكراه.

* بناء الذات الثورية
يعتبر شريعتي أنّ الثورة ليست مجرّد نقطة انفجارية في حياة الإنسان والمجتمع، إنّما هي حركة بنائية متجدّدة يتمّ بناؤها بالكدّ والمكابدة، فمن الصعب أن تظلّ مخلصاً للثورة وطريقها ما لم تكن ثورياً قبلها في الأصل.
وأن تبقى مخلصاً للثورة؛ يعني تبني ذاتك وتكافح في سبيل هذا البناء، هكذا يلخِّص شريعتي الأمر، وهذا البناء وهذه الثورة إنّما هي انعتاق للجوهر الإنساني من حتميات الجغرافيا والتاريخ والمجتمع والبيولوجيا، هذا الانعتاق لا يكون كاملًا بطبيعة الحال وإلّا كان انفصالاً وتشظياً، فهي مسؤولية الإنسان في أن يقرّر ويرتضي لنفسه مصيره الذي يرى نفسه أهلًا له.
كما يرى علي شريعتي لفكرة بناء الذات ثلاثة مبادئ لا تكاد تخلو منها ثقافة أو حضارة، وهي: المعرفة الوجدانية، والسعي إلى العدل والمساواة، وأخيراً التوق إلى الحرية.

* مسؤولية المثقف
لنا أن نعتبر كتاب «مسؤولية المثقف» إحدى الركائز الأساسية التي انطلق منها مشروع علي شريعتي، والتي ستؤثر على شكل كل ما تلاها من كتب ومحاضرات وأفكار.
تنبع فكرة الكتاب من التفريق الأوّلي الذي اختطه شريعتي بين ما سمّاه المثقف الأصلي والمثقف المقلِّد، المثقف الأصلي هو المثقف الأوروبي الذي نشأ في كنف الطبقة البرجوازية الأوروبية، التي عانت في بداياتها من استبداد الدين والسلطة، فخدمها هذا المثقف بأفكاره وأطروحاته وتفاعله مع مشاكلها.
أمّا المثقف المقلِّد فهو الذي تمّ استنساخه على نموذج المثقف الأوروبي في حضارات وسياقات مختلفة في الشرق والغرب، ويبقى هذا المثقف المقلِّد شاذاً في موضعه من المجتمع الذي لم ينتجه ويبقى غير قادر على التفاعل مع قضاياه، ما لم ينتج أدواته الخاصة ويتحرّر من أصل التبعية الثقافية التي اصطنعته.
هذه هي المقدمة التي ينفذ منها علي شريعتي إلى ضرورة دور المثقف العضوي والمثقف المنتج محليًا، فالتقدم والإنتاج الاقتصادي والحضاري لا بدّ من أن يسبقه إنتاج متقدّم على مستوى الأفكار والثقافة، وهو هنا يجادل تحديدًا ضد النزعة الحركية التي تقول إنّه قد انتهى وقت الكلام وحان وقت العمل.. حيّا على خير العمل. وهنا، يرى شريعتي أنّ ما سبق لم يكن كلاماً ينبني عليه عمل، إنّما بدايات وعي بالأزمة التي تمرّ بها الأمّة، ويجب أن يتبع هذا الوعي اشتباك معرفي وثقافي ودعوي يهيئ الأرضية الملائمة لعمل حقيقي ومنتج في سبيل الحضارة. فالمثقف – مثل نبيّ بلا نبوة – يسعى بين الناس بوظائف النبوة؛ وعليه أن يتحمل التبعات ولو كلفته حياته.

* النباهة والاستحمار
يعتبر هذا الكتاب من أكثر الكتب شهرة لعلي شريعتي، وهو تعميق لطرحه السابق في كتابه مسؤولية المثقف، ولكن هنا يتوسّع علي شريعتي في قضية «نسبية القضايا الثقافية»، أي أنّ القضية الثقافية التي تطرح في سياق اجتماعي ما قد تؤدي لتقدمه أو حلّ مشكلة مستعصية بالنسبة له، هي نفس القضية عندما تطرح في سياق اجتماعي آخر قد تكون مدمِّرة لأنّها مفتقدة للدافع الاجتماعي والأولية.
يبرز هنا مصطلح «الاستحمار» كمضاد للنباهة والأصالة والإبداع، وهي الصفات التي تكون الذات الفاعلة في المجتمع وتجعله كياناً مستعصياً على الاستبداد والاستعمار، حين تختفي هذه الصفات يبرز الاستحمار كضدٍّ مناسب لنشوء الاستبداد.
قد يبدو الاستحمار مصطلحاً طريفاً أو مستهجناً، ولكنّه معبِّر بشدّة عن سياسة أو نمط تاريخي وحديث يتمّ استخدامه لصرف المثقف والذات الثورية عن التفاعل الجاد مع قضايا المجتمع. وتكمن فاعلية هذا الاستحمار في كونه يتعمّد الانطلاق من أرضية أخلاقية، أي أنّه يطرح قضايا ومسائل قد تكون مشروعة أخلاقيًا ودينيًا؛ ولكنّها ليست ذات أولوية اجتماعية.
كأن يندلع حريق في بيتك؛ فيهرع إليك أحدهم قائلاً: «هيّا إلى الصلاة والعبادة»، فمهما بدت هذه الدعوة أخلاقية ومقدّسة إلّا أنّها تنطوي على شرٍّ كامن وماحق، لأنّ الانشغال (ولو كان مقدساً) بغير إطفاء الحريق هو نوع من الاستحمار.

* التشيع الصفوي والتشيع العلوي
إذا كان النقد الثقافي ومحاولات التأسيس هي الأطر التي يتشكّل منها فكر علي شريعتي، فنقده للحوزة الدينية وللتدين الشيعي السائد في إيران في ذلك الحين هو تفاعله الحقيقي داخل هذه الأطر.
كان شريعتي مسلمًا متدينًا لا يرى نهضة دون الإسلام، ولكنّه أراد تخليص التشيّع السائد في بلاده حينها من نزعتين أساسيتين، النزعة الأولى وهي الخرافة والتقاليد، ولخص ذلك بقوله «إنّ مبادئ الدين التي في الكتب غير تلك المطبَّقة على الأرض»، وهو هنا يسحب البساط من تحت أقدام المثقفين الذين لم يتوانوا عن مهاجمة الإسلام واتهامه بأنّه سبب التخلّف استنادًا على هذه الخرافات وتلك التقاليد. إذًا، يدعو شريعتي إلى إعادة اكتشاف الإسلام ومعرفته، وهي القضية التي خصّص لها مجموعة أخرى من المحاضرات وصدرت في كتاب تحت عنوان «معرفة الإسلام».
ويحاول شريعتي، رغم كونه شيعياً متديناً، إنصاف الدولة العثمانية التي اعتبر أنّها قامت بدور كبير في صدّ الحملات الصليبية والاستعمارية في أكثر من محطة تاريخية.
فيرى شريعتي أنّ التشيع الصفوي سطا على أهم الأسس التي قام عليها التشيّع العلوي الأصلي وقام بتحريفها وتغيير معناها، وهي: العترة والإمامة والعصمة والتقيّة والسنّة والتقليد.
ويتّبع شريعتي منهجاً تشريحياً ليقرّر الفرق بين هذه المفاهيم عند كلّ من نوعي التشيّع، ويرى أنّ الدولة الصفوية حرّفت هذه الأصول لأغراض الإخضاع السلطوي والسياسي، وهو يُشبِّهها بالدولة الأموية التي حرّفت مبادئ المذهب السُّني لتبرّر السيطرة على مقدرات البلاد والعباد باسم المقدّس «الديني».

* مسؤولية المرأة
أمّا قضية المرأة بالنسبة لشريعتي فهي المثال الأنسب الذي يشرح منهجه الفكري والثقافي. في كتابه «مسؤولية المرأة» يطبّق شريعتي عملياً نقده للدين التقليدي السائد ونقده للتشيّع الصفوي ونقده للمثقف المزيّف، ويشرح طريقه لإعادة اكتشاف ومعرفة الإسلام والتشيّع كأساس يقوم عليه مشروعه الحضاري.
ويعتبر شريعتي أنّ المرأة -في عهده- تقع تحت نيرين؛ نير الاستبداد باسم الدين والتقاليد التي هي ليست من الدين في شيء، وهي امتداد لميراث العبودية والسلطة الأبوية، ونير المفاهيم الثقافية الغربية التي ليست سوى امتداد للنزعة البرجوازية في نشر ثقافة الاستهلاك والجنسانية لتبرير وتهيئة الأرضية لتمدّدها الإمبريالي.
ووفقاً لشريعتي، فالطريق الحقيقي للمرأة هو الاقتداء بـ«فاطمة الزهراء» والتعلّم منها في كل أحوالها، ويرى أنّ هذا هو الطريق الحقيقي لتحرير المرأة من نير التقاليد التي خالطت الدين حتى أصبحت منه حيناً، وأصبح منها أحياناً.

* كاتب لبناني، مدير عام «دار الأمير» في بيروت.