في التاريخ الحديث من فيتنام إلى الجزائر، ومن أنغولا إلى جنوب لبنان، واليوم في اليمن، ثمّة درس وحيد: من الحماقة بمكانٍ أن تغزو بلاد الآخرين وتتوقّع أنّهم لن يطلقوا النار عليك. «آلة الحرب» (2017 ــ بطولة براد بيت) الذي أرادته نتفليكس فتحاً، فشل فنيّاً بدون شك، ولكنّه يبقى أفضل إنتاج فنّي يفسّر الحرب الأميركية على أفغانستان: تخوض القوى الغربيّة حروباً متجدّدة في أراضي الآخرين بفضل إغراءات التفوق العسكري السّاحق وعناد القيادات النرجسيّة. لكن إن أرادت الشعوب حريّتها، فإنّ حركات المقاومة المحليّة لا يمكن هزيمتها، ولذا فإن الاحتلال الأميركي لأفغانستان كان حرباً لا يُمكن كسبها، وموتاً مجانيّاً بلا جدوى ومغامرة محكوماً عليها بالفشل منذ البداية.
في عزّ احتدام الحرب بين منصّات البثّ الرّقمي (الستيريمنغ) والسينما التقليديّة في النصف الثاني من العقد الماضي، قرّرت نتفليكس استدعاء المدفعيّة الثّقيلة لتغيير وجه صناعة الترفيه البصري إلى الأبد: النجم الشهير براد بيت، في فيلمٍ روائيٍ طويلٍ مستوحى من أحداث حقيقيّة تأخذ حيّزاً من الجدل العام، لا سيّما بعد صدور كتاب عن تجربة الجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأميركية في أفغانستان، يتولّى إخراجه محترف لا أقلّ من ديفيد ميشود الذي وضع في تصرّفه 60 مليون دولار (أعلى ميزانيّة لفيلمٍ واحد استثمرتها نتفليكس حتى ذلك الحين)، مع تعاون ومساعدة الجيش الأميركي لتقديم حكايةٍ تسجّل الحدث الأفغاني من خطوط المواجهة على الأرض إلى أروقة السلطة ودهاليز الحكم في واشنطن، ومروراً بمشيخات الخليج (نقطة الارتكاز الأميركية في الشرق الأوسط)، كما باريس وبرلين. لقد أرادت نتفليكس من الفيلم الذي أُطلق عليه عنوان «آلة الحرب»، أن يصبح مفصلاً وعلامة على التجربة، تماماً كما شكلّت أفلام هوليوود عن فيتنام خلال الثمانينيات («رامبو»، وMissing in Action وPlatoon) مجمل السرديّة التي أرادت النّخبة الحاكمة إيصالها للأميركيين عن تلك الحرب (العدوانية): الولايات المتّحدة نفسها لم تخسر، بل فقدت فرصة الانتصار بسبب غباء المدنيّين المُعادين للحرب، وقِصر نظر بعض الإدارات السياسيّة خلال عقدَي الحرب، وتردّد القيادات العسكرية.
لكنّ «آلة الحرب» خيّب كل الطّموحات النتفليكسيّة تلك. هو لم يأتِ مثيراً كفايةً ليكون فيلماً حربيّاً، وليس مضحكاً بما يكفي ليتحوّل أداةً نقديّة ساخرة لصناعة الموت الأميركي، ولا جادّاً ليكون طرفاً في الجدل السياسي. انتهى كأنّه عاصفة حزم سعودية أخرى: فيلم طويل وغير مستقر وتجميع مكلف لكتل من الفشل المتراكب. فلا الفيلم يختار له تموضعاً، ولا البطل يتعلّم شيئاً، ولا الجمهور يستفيد بعد حوالي ساعتين من المشاهدة بشيءٍ لم يعرفه من قبل: فالجميع كان يدرك بأن المهمّة (العسكريّة) في أفغانستان محكومة بالفشل. قصّة «آلة الحرب» اقتُبست بشكلٍ فضفاض عن كتاب الصّحافي الأميركي المشاغب مايكل هاستينغ (2012) The Operators: The Wild and Terrifying Inside Story of America›s War in Afghanistan الذي يسرد مغامرات مزعومةٍ للجنرال ستانلي ماكريستال الذي أقاله الرئيس السابق باراك أوباما بعدما أدلى بتهوّر لهاستينغ بتصريحاتٍ انتقادية للإدارة السياسية الأميركية نُشرت في مجلّة «رولينغ ستون».
يلعب براد بيت في الفيلم بشكلٍ أقرب للكاريكاتوري دور الجنرال غلين ماكماهون (ستانلي ماكريستال) الذي أرسلته الإدارة الأميركية لتقييم الموقف في أفغانستان والتوصّل إلى نهايةٍ للحرب عديمة الجدوى هناك، مع الاحتفاظ بشيء من ماء الوجه للإدارة الأميركية. ماكماهون (يطلق عليه رجاله لقب «غلين الوحش») ضابط مشهور من أيّام الحرب على العراق، يحبّه جنوده، لكنّه يحظى بكراهية القيادات المدنيّة والديبلوماسية في واشنطن، ويبدو في الخدمة العسكرية كأنّه مجنونٌ ومهووس. آداء براد بيت للدور يبدو تلفيقاً لعدّة كليشيهات من أفلام الحروب الكلاسيكية، ويقصّر تماماً عن مساعدة المشاهد على اتخاذ قرارٍ حاسمٍ بشأن نوعيّة الضّحك المطلوب منه: على شخصية غلين أو مع غلين.
الفيلم يتتبعه من لحظة تعيينه قائداً عامّاً للقوات، محمّلاً بأكياسٍ كثيرة من ثقة بالنفس والشغف بممارسة القيادة، يصل عبر مطار دبي منتشياً باعتقاده بإمكان فرض انتصار عسكري حقيقي على المتمردين الأفغان عبر تغيير أسلوب القيادة، يبدأ من تغيير الأجواء الشكليّة في المقر الرئيسي لقوات الاحتلال عبر استجلاب قادة مختلف القوى العسكرية الممثلة للدول المشاركة في التحالف الدولي إلى فضاء عمل مفتوح واحد، مع تجاهلٍ متعمّدٍ لسلوكيّات التهتّك الجنسيّ الأوروبيّة المنحطّة. لكنه بعد جولةٍ شاملةٍ عبر أفغانستان، يجد سريعاً أنّ القوات الأميركية لا تسيطر بالفعل سوى على قواعدها المنعزلة. أسماك قرش بلا بحر، فيما معظم البلاد عمليّاً في يد «طالبان»، التنظيم المحلّي للمجاهدين البشتون، الذي ــ كما رفوف من السمك ـ يسبح في محيطٍ من بيئةٍ متعاطفة. تظهر القوات الأفغانية الموالية للأميركيّين عديمة القيمة وتجمّعاً من اللصوص. ولذلك يقرّر الجنرال فرض هيبة قوّاته ومدّ سيطرتها على المناطق من حولها عبر حملةٍ عسكريةٍ طلب من واشنطن 40 ألف جندي إضافيّ من أجلها، وقام بجولةٍ أوروبيّة مذلّة مع حاشيته لاستجداء مزيدٍ من الجنود من شركاء الولايات المتحدة المتردّدين. بعد مشاهدَ مبتذلةٍ لقادة عسكريين أميركيين يتحدثون من خلال مترجمين فوريين إلى السكان الأصليين لكسب قلوبهم وعقولهم، تحدث أقوى لحظات الفيلم: عندما لا يخفي هؤلاء المدنيّون المغبّرون عداءهم للغزاة ونصيحتهم لهم بالمغادرة الفورية. وبالطبع لا تصل الرسالة إلى ذهن القائد الذي يأمر بفتح المعركة للتمدّد خارج القواعد العسكرية في المراكز الحضريّة. مشاهد المعارك بعدها لم تضف كثيراً للفيلم وغاب عنها براد بيت، فيما ضاعت فرصة هائلة للإفادة من بين كينغسلي في أدائه الممتع لدور الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي يعرف حدوده تماماً كجرم تابع للأميركي لا قيمة له أو لقراراته، ولا تتجاوز ولايته عن التسمية والطقوس الشكليّة.
كل الأفغان في «آلة الحرب» ـ مهما كانت مواقعهم حتى ضمن حاشية غلين نفسه ــ يتعرّضون للإهانات والاحتقار بوصفهم متخلّفين وجهلة وغدّارين، بينما يُلقي جندي أميركي - طيّب القلب - بـ 500 دولار في حجر والد سُجّي ابنه أمامه بعدما قتلته قذيفة أميركية.. يا بلاش!. الأداء الأكثر إنسانية بين الشخصيّات البيضاء وفي الوقت عينه الأشدّ عنجهيّةً يأتي من ميغ تيلي كزوجة الجنرال المهملة، جيني، التي تشتكي لزوجها بهدوءٍ وترفّع على العشاء في باريس بشأن غيابه عن البيت في جولات القتل بين العراق وأفغانستان. ومع ذلك تقول إنها فخورة به، وأيضاً فخورة بذاتها على صمودها كل ذلك الوقت.
يفشل «آلة الحرب» في كسب أي احترام عاطفي يفترض أن نقدّمه للبطل، أو لجيشه، أو لحكومته، أو لحلفائه، أو حتى لزوجته، ويبدو أقرب إلى مشروع الحرب الأميركية على أفغانستان نفسه: تجسيد لغباء الإمبراطورية التي من ضخامتها وبلاهتها المحتّمة تتحوّل إلى ديناصور هائل ذي عقلٍ صغير. لكنّه مع ذلك يمكن أن يبقى كوثيقة دراميّة فنيّة للتاريخ، تفسّر كثيراً من خلفيّات الحرب الأميركية على أفغانستان ومآلاتها (المثيرة للخجل): تخوض القوى الغربية حروباً متجدّدة في أراضي الآخرين بفضل إغراءات التفوق العسكري الساحق وعناد قياداتها النرجسية المهووسة بالأيديولوجيا ووهم التفوّق. لكنّ حركات المقاومة المحليّة التي تفرزها الشعوب العنيدة لا يمكن هزيمتها، ولذا فإن الاحتلال الأميركي لأفغانستان وقبله الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وبعده العدوان السعودي على اليمن كلّها حروب لا يمكن كسبها، وموت مجاني بلا جدوى ومغامرات محكوم عليها بالفشل منذ البداية.

War Machine على نتفليكس