انطفأ برهان علوية أمس، لكن أفلامه، ستضيء الشاشات على الدوام، خصوصاً فيلمه الروائي الأول «كفر قاسم» (1974)، الذي شكّل وشماً لا يمحى في تاريخ السينما العربية (التانيت الذهبي في «مهرجان قرطاج» 1974)، عن قرية «كفر قاسم» الفلسطينية، موثّقاً وقائع مجزرة معلنة ارتكبتها عصابة الهاغانا الإسرائيلية. تكمن حرارة هذا الفيلم في نبرته الوثائقية من جهة، وارتفاع منسوب التجريب في مقاربة المأساة الفلسطينية من جهةٍ ثانية. سيأسرنا إلى اليوم هذا النوع الهجين من السرد البصري، وتناوب الوثيقة والصورة المتخيّلة عنها.

قرار منع التجوّل الذي أصدرته سلطة الاحتلال الإسرائيلي قبل نصف ساعة من المجزرة، أعاق وصول العمّال الفلسطينيين إلى قريتهم في التوقيت المناسب، فلم يتمكنوا من العودة إلى الأبد. من هذه البؤرة الضيّقة جغرافياً، ستكشف وقائع الشريط أن الأمر لا يتعلق بهذه القرية فقط، إنما في البلاد كلها كأرضٍ مسروقة، على خلفية هزائم أخرى. اختار صاحب «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978) زمن الراديو للتعبير عن الصوت في المقام الأول، ففيما كان جمال عبد الناصر يعلن في خطابه تأميم قناة السويس، عشية العدوان الثلاثي على مصر، كان الإسرائيليون يرتكبون مجزرة جديدة، وستحضر الإذاعة الإسرائيلية لتسجيل رسائل صوتية للأهالي للتأكيد على أنهم على قيد الحياة.
وعلى المقلب الآخر، سنجد في المقهى مكاناً للهتاف والاحتجاجات والحسرة التي لا تتجاوز عتبة المقهى، في تأويل صريح لمعنى المواجهة. تكمن أهمية هذا الشريط إذاً، بأنه عابر للأزمنة بصرياً وسردياً في آنٍ، ووثيقة حيّة تتكئ على الفوتوغرافيا وقائمة أسماء الضحايا، والسرد الحكائي برؤية بديلة تدير ظهرها للخطابة، لطالما ميّزت أفلام برهان علوية في ذهابه إلى معالجات سينمائية آسرة محمولة على خلفية فكرية عميقة، تضع يدها على الوجع تماماً في تفسير أحلام وهزائم جيل، واحتضار تطلعاته، من دون بكائيات، كأن هذه السينما تعمل من منطقة الرثاء وحدها، بتمجيد الهامش وتعرية الوهم، وفضح أحوال الاحتضار. هكذا تشتبك سينما برهان علوية مع الأسئلة الشائكة بدمغة معرفية وفلسفية في تشكيل خريطة بصرية لم تخطئ بوصلتها يوماً. من هذا الباب سنتلقى فيلمه «رسالة من زمن الحرب» كوثيقة أخرى عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، مركّزاً على شهادات الناجين من الحرب، ونظرتهم لمعنى الهوية الوطنية، وأسباب التفكّك، وحطام البلاد، والميليشيات المتقاتلة، مؤصلاً أسلوبيته في صناعة مشهدية نافرة وطازجة ومشتهاة «لم يعد ثمة فارق بين السينما التسجيلية والسينما الروائية. ولقد بات هناك، ولا سيما مع انفجار عالم الصورة واتساع حضورها واستخدامها في مختلف المجالات، نوع واحد من السينما هو سينما الحقيقة. وأنا أحاول أن أجد المقاربات الفنية الملائمة لهذه السينما». هذه الخسائر الوجدانية المتلاحقة بما فيها مرض السرطان ستنأى به بعيداً، إلى أعمق طبقات فقدان الأمل، إذ سيهاجر إلى بروكسيل، المدينة التي درس الإخراج في معهدها، وهو ما سيعبّر عنه في فيلمه القصير «رسالة من زمن المنفى». في «خلص» (2006)، سيقتفي أثر الحرب الأهلية اللبنانية محاولاً تفكيك ألغامها: «لم أكن أستبق الواقع. كنت أتحدث عن جيل سار وراء السراب، ووراء الظن بأن الحرب ستحقّق أحلامه. كان هذا الجيل مقتنعاً بالتغيير، لكنه أصيب بالخيبة ووصل إلى الفراغ» يقول. «خلص» درس منهجي في الاعتراف بأن كل ما نحلم به «خلص»، وكان لابد أن يغادر هذا الجحيم.